| شرفات
* حوار : رياض العسافي
دأب كثير من المستشرقين الى التقليل من دور سكان الجزيرة في التأثير على مراحل بناء الحضارة الاسلامية وزعموا ان الحضارة الاسلامية لم يصبح لها شأن الا بعد احتكاك العرب بحضارات بلاد واي الرافدين وفارس وبلاد الشام ومصر. )الجزيرة( حملت كل هذه الاتهامات وطرحتها على طاولة رئيس قسم الآثار والمتاحف بكلية الآداب بجامعة الملك سعود بالرياض الدكتور خليل بن ابراهيم المعيقل الذي دافع عن كل هذه الاتهامات بالادلة والشواهد من خلال حديثه الشيق للجزيرة:
* كيف نشأت العمارة الإسلامية وماهي الآراء التي طرحت حول ذلك؟
اغفلت المصادر الاسلامية المبكرة الحديث عن العمارة الاسلامية ونشأتها الا ماورد من ذكر لبعض المنشآت التي شيدها الخلفاء والامراء في الفترات الاسلامية المختلفة، لذا فان معلوماتنا عن العمارة الاسلامية جاءت نتيجة للاعمال الآثارية الميدانية التي بدأت بصورة فعلية ملموسة منذ بداية القرن العشرين وكانت تلك البدايات على ايدي عدد من الدارسين والمهتمين من المستشرقين الذين اولوا العمارة الاسلامية جانباً من اهتماماتهم بالشرق الاسلامي، لذلك فقد طرح عدد منهم آراء حول نشأة العمارة الاسلامية ابسط ما توصف به السذاجة وعدم الحياد العلمي ورغم ان معظم من ناقش نشأة العمارة الاسلامية كانوا من غير المختصصين بالعمارة الاسلامية اذا ما استثنينا المتأخرين منهم، الا ان معظم آرائهم التي سوف نذكرها لاحقاً اصبحت من المسلمات التي وجدت لها صدى حتى بين الباحثين العرب والمسلمين.
وركزت الدراسات الاولى التي تناولت نشأة العمارة الاسلامية على الجزيرة العربية باعتبار انها مهبط الوحي والارض التي نبت فيها الاسلام وحضارته الاولى ثم انتشر بعد ذلك في ارجاء المعمورة وقد نهج كثير من المستشرقين عند تناولهم لهذه الفترة منهجاً سعى الى التقليل من دور سكان الجزيرة وحضارتها في التأثير على مراحل بناء الحضارة الاسلامية وكان ذلك محصلة لتوجهاتهم التي تؤكد ان الحضارة الاسلامية لم يصبح لها شأن الا بعد احتكاك العرب بحضارات بلاد وادي الرافدين وفارس وبلاد الشام ومصر ومن خلال هذا الاحتكاك تم نقل معظم مقومات الحضارة الاسلامية وهاهي المستشرقة جرنود بل تتحدث عن المسلمين وتصفهم بالبدو الرحل الذين سكنوا الخيمة السوداء )بيت الشعر(، اما سكان واحات الجزيرة العربية فترى انهم كانوا يقنعون بنوع قبيح من العمارة الطينية التي لا يزينها اي نقش، اما الفرنسي الاب لامنسي فتحدث عن سكان مكة من خلال دراسته للشعر العربي القديم حيث ذكر ان قريشا كانت تعيش في مساكن فقيرة وان شعراء العرب تحدثوا عن كرمهم وحجم قدورهم اما الكعبة فكانت عبارة عن بناء صغير وعندما تحتاج الى اعادة بناء فان اهل مكة كانوا يستعينون بعمال اجانب وقد ردد هذه المزاعم عدد آخر من المستشرقين لا يتسع المجال لذكرهم، لكن معظم تلك الآراء تهدف في المقام الاول الى تجريد عرب الجزيرة العربية من اي دور لهم في بناء الحضارة الاسلامية في مراحلها الاولى وقد تأكد هذا التوجه الغربي من خلال الدراسات التي قام بها المهندس البريطاني ك.أ.كريزول الذي خدم في الجيش البريطاني في سوريا وفلسطين ومصر منذ بداية القرن العشرين ثم استقر في مصر واسس معهد الدراسات الاثرية في جامعة فؤاد الاول بالقاهرة وقام بدراسات ميدانية للعمائر الاسلامية في مصر ومعظم العالم الاسلامي ونشر اربعة مجلدات ضخمة نشرتها جامعة اكسفورد ويعد اهم ما نشر عن العمارة الاسلامية، ورغم اهمية ما قام به كريزول من عمل الا ان آراءه فيما يتعلق بنشأة وتأصيل العمارة الاسلامية لم تبتعد عن توجهات المدرسة الاستشراقية بل ان كريزول حاول جاهداً لترسيخ تلك الآراء وبحث في كتب السيرة النبوية وكتب التاريخ عن ادلة تدعم توجه تلك الآراء التي صورت الحضارة الاسلامية والعمارة على وجه التحديد على انه حضارة ناقلة فقط، ولم يكن لها نصيب من الابداع والاضافة، ومن اكثر آراء كريزول تطرفاً رأيه عن الفراغ المعماري في الجزيرة العربية قبل الاسلام ونفيه بناء مسجد في الاسلام قبل عصر الوليد بن عبدالملك عام 86ه حيث انه يرى ان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة لا يعدو ان يكون صحن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم واستخدم لاداء الصلاة، كذلك اشار كريزول الى ان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره العمارة وهذا الرأي بني على فهم خاطئ لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم والعمارة وهو الذي بدأ في تشييد مسجده وبيوت ازواجه بعد وصوله الى يثرب مباشرة.
لقد اغفل كثير من الدراسات المبكرة عن نشأة العمارة الاسلامية الاسس الاولى للعمارة الاسلامية التي حضرت في فترة صدر الاسلام بدءاً ببناء مسجد يحمل خصائص معمارية تلبي حاجات المسلمين الدينية ومروراً ببناء المساكن واعادة تخطيط المدينة التي تحولت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من مدينة مشتتة الى مدينة اسلامية اصبح المسجد قلبها النابض ومركز النشاط فيها اضافة الى استحداث نظام الاقطاع وربط التكوينات العمرانية المختلفة من خلال شبكة عن الطرق والازقة.
ان هذه النشأة المبكرة والتي ظهرت من خلالها الشخصية الاسلامية كانت البداية الفعلية للحضارة الاسلامية وقد استعاد المسلمون من تجاربهم وخبراتهم المعمارية السابقة، لذا فان أثر الجزيرة العربية يظهر بصورة واضحة ويتناقض مع تلك الآراء التي طرحت وحاولت ان تهمش دور العرب في بناء الحضارة الاسلامية ولقد نقلت التجربة المعمارية والعمرانية التي تحققت في المدينة ابان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح الاسلامي للعراق ومصر فأسست البصرة والكوفة والفسطاط في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد اسست تلك المدن على نموذج مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تتأثر في مراحل تأسيسها بمدن العراق ومصر الاخرى.
للوضع السياسي والاقتصادي دور مؤثر
* ما الخصائص التي تتميز بها العمارة الاسلامية بصفة عامة؟
تميزت العمارة الاسلامية عن غيرها من عمارات العصور والحضارات الاخرى كونها عمارة طبعت بطابع الدين الاسلامي الذي اطر هذه العمارة وصبغها بصبغة اسلامية حيث ان كثيراً من خصائص وطرز العمارة الاسلامية ينطلق من مفاهيم اسلامية جعلت من هذه العمارة ذات بعد انساني خدمت حاجات المجتمع والفرد في توازن فريد بين المجتمع والبيئة المحيطة به، وقد ساهمت النشأة الاولى للعمارة الاسلامية في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية التي احاطت بمجتمع المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في ترسيخ مبدأ الوظيفة في العمارة الاسلامية حيث غلب البعد الوظيفي للمنشأة حيث شيد كثير من المباني بدءاً بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومساكن ازواجه ومروراً بدور الصحابة باستخدام مواد بناء متوفرة في البيئة المحيطة وبتكاليف زهيدة ورغم بساطة هذه العمارة الا انها حملت كثيراً من الاسس الاولى للعمارة الاسلامية ونظرة الاسلام، والمجتمع الاسلامي لحاجاته وتطلعاته المعمارية لذلك فان كثيراً ممن درسوا العمارة الاسلامية في صدر الاسلام لم يتفهموا الابعاد المختلفة لهذه العمارة وقاسوا تلك العمارة بمقياس جمالي بحت دون النظر الى المواضيع الاساسية في العمارة والتي يأتي في مقدمتها الفكر التخطيطي الذي راعى قضايا البيئة المحيطة ومواد البناء وحاجات المجتمع في توازن لا يمكن تحقيقه في اي حضارة اخرى غير الحضارة الاسلامية.
لقد استمرت العمارة الاسلامية في مراحلها الاولى وخلال النصف الاول من القرن الاول الهجري يغلب عليها الجانب الوظيفي رغم ان عمارة عثمان بن عفان رضي الله عنه لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم عام 29ه كانت نقطة تحول مهمة في تاريخ العمارة الاسلامية حيث استخدم في عمارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مواد بناء مختلفة عن المراحل السابقة بل ان المسجد اعيد بناؤه بالحجر المنحوت واستخدم خشب الساج المستورد في تغطية السقف، لذا فان الوضع الاقتصادي كان له دور مؤثر على نمط العمارة الاسلامية المبكرة وقد اتضح ذلك عندما استقرت الاوضاع السياسية والاقتصادية للدولة الاموية في عهد عبدالملك بن مروان حيث اعقب ذلك بناء مسجد قبة الصخرة الذي اكتمل بناؤه عام 72ه والذي مازال قائماً وشاهداً على عظمة الفكر المعماري الاسلامي الذي فاق في طرزه وتقنياته عمارة العصور التي سبقته.
ومنذ منتصف العصر الاموي بدأت العمارة الاسلامية تنحو منحى جماليا وبدأ المعماريون المسلمون يهتمون بالجوانب الجمالية في العمارة الاسلامية لكن ضمن مفاهيم واطر اسلامية حددت طبيعة تلك الزخارف واستخداماتها، وقد ظهرت توجهات الدين الاسلامي جلية في هذا الجانب حيث ابتعد الفنانون المسلمون عن تجسيد العناصر الحية واتجهوا الى الاغراق في استخدام العناصر النباتية والهندسية التي شكلت ابرز ملامح الزخرفة الاسلامية ورغم ان العناصر النباتية والهندسية ظهرت في عصور سابقة، الا ان الزخرفة الاسلامية اصبح لها طابع خاص تمثل في البعد عن المحاكاة وعدم تصوير تلك العناصر خاصة النباتية كما خلقها الله عز وجل بل اتجه الفنان الى اسلوب التحوير او الرمزية وهي الاساليب الفنية التي استخدمت في زخرفة المباني المعمارية وقد ادى هذا الاسلوب الى ابتكار زخرفة التوريم التي تعتمد على تكراراً غير ممل للعنصر الزخرفي الواحد.
اما العناصر المعمارية التي تميزت بها العمارة الاسلامية فتمثلت بالاعمدة وتيجانها والعقود والقباب وهذه العناصر التي تمثل اطاراً عاماً للعمارة الاسلامية استخدم في كل انماط المباني الاسلامية في المسجد والقصر والمنزل والحمام، ورغم ان هذه العناصر كانت معروفة مجتمعة او منفردة في عمارة العصور السابقة للاسلام الا ان تلك العناصر اصبحت لها سمات اسلامية خاصة في عمارة المسجد الذي اصبح العمود والتاج والقصر والقبة ويضاف لها المأذنة عناصر اساسية صاحبة عمارة المساجد منذ العصر الاموي حتى وقتنا الحاضر.
لقد تميزت العمارة الاسلامية في عصورها المختلفة بوحدة في عناصرها المعمارية والزخرفية رغم التباين الواضح بين المناطق الجغرافية المختلفة ورغم وجود خصائص معمارية محلية الا ان الطابع العام للعمارة التي شيدت في الهند او الاندلس يجمع بينها عناصر مشتركة وشخصية اسلامية يستطيع المتأمل تحديد هويتها دون عناء وهذا ساهم في ابراز العمارة الاسلامية واستمراريتها خلال العصور المختلفة.
ان المباني الاسلامية المنتشرة في مناطق شاسعة من العالم الاسلامي والتي تعود لعصور مختلفة تقف شاهداً على عظمة العمارة الاسلامية وهاهي قبة الصخرة والمسجد الاقصى الشريف تقف شامخة في وجه المحتل رغم اسرها وكذلك المآثر الاسلامية في الاندلس وابرزها مسجد قرطبة وحمراء غرناطة تذكرنا بعظمة الاسلام في ارض الاندلس المفقودة وغيرها الكثير من العمائر الاسلامية.
انتهاك خصوصية أهل الدار
* لماذا غابت العمارة الاسلامية في مدننا الاسلامية؟
عاشت المدن الاسلامية في ظل هويتها الاسلامية عندما كانت العمارة التي تشيد فيها تمثل استمراراً لتقاليد عمرانية محلية ورثها الآباء عن الاجداد وهي عمارة كانت تنبع من البيئة وتحقق متطلبات سكانها وحاجاتهم اليومية وتراعي في الوقت نفسه طبيعة المكان والمناخ، لذا تجاوب الانسان مع هذه الظروف المحيطة وانتج فناً معمارياً استخدمت فيه مواد البيئة المحلية الا ان هذا التراث العمراني الممتد لم يصمد في العصر الحديث امام زحف نماذج معمارية دخيلة على المدن الاسلامية وربما يكون الجانب الاقتصادي وقلة تكلفة المواد الخرسانية وبريقها اضافة الى عدم وجود قوانين تحديد طبيعة استخدام تلك المواد ساهم في تغريب عمارة المدينة الاسلامية واستبدال النموذج الاسلامي الذي يعتمد على استخدام مواد البيئة المحلية بنماذج من العمارة المستوردة التي لا تمت لنا بصلة بل ان القضية لم ترتبط فقط بمواد البناء بل الامر تعدى ذلك الى استيراد نماذج تخطيطية لمنازلنا ومدننا ابسط ما توصف به انها نماذج تتعارض مع ابسط مبادئنا الاجتماعية التي بني عليها المجتمع وعلاقات الجيرة التي رسخت في المدينة الاسلامية واقصد بذلك العلاقة التي تحكم المساكن المتلاصقة والتي يأتي في مقدمتها خصوصية اهل الدار التي انكشفت في ظل تخطيط المساكن الحديثة التي تفتح نوافذها وابوابها على الجيران والشارع، في حين ان المسكن الاسلامي ابرز ما يميزه صحن الدار الذي تفتح عليه النوافذ والابواب والذي خفظ لسكانه خصوصيتهم وعدم كشف عورات البيوت الملاصقة، اذاً علاقة الجيرة كانت ابرز ضحايا النماذج المستوردة ولقد تنبه كثير من القائمين على المدن والمعماريين لهذه القضية لكن بعد فوات الاوان وحاول بعض المعماريين الخروج من هذا المأزق الا ان ذلك لن يتحقق في ظل انظمة البناء التي ينتهجها كثير من امانات المدن والبلديات التي لم تراع البعد الاجتماعي عندما وضعت قوانينها وقد تفاقمت المشكلة في المدن الكبيرة التي تضاعفت مساحتها واصبح البناء الرأسي حلاً لمشكلة المساكن، نأمل ان يعاد النظر في قوانين البناء وان يدرس البعد الاجتماعي ويراعى عند التفكير في تعديل القوانين لربما تستعيد المدن جزءاً من شخصيتها الاسلامية.
|
|
|
|
|