| مقـالات
كنت في طريقي للعمل في تمام السابعة وخمس عشرة دقيقة صباحاً، وعند وقوفي في أحد التقاطعات، لمحت شاباً سعودياً يقف عند حافة الرصيف، وكان يرتدي ثوبا صيفيا رثاً، ولم يتق شر البرد الموجع بشيء، سوى بتلك الكتلة الهائلة من الشعر الثائر اتساخاً، والذي يبدو أنه لم يكلف نفسه عناء مشطه منذ مدة طويلة!!! يرفع ثوبه لأعلى ويحدق بالسيارات دون شفقة. استمر الحال لدقيقتين على الأكثر ليقع ما كنت أخشاه!!! لقد وقع اختياره علي، وفعلا اندفع نحو سيارتي وبدأ يطرق الزجاج بيده ذات الأظافر الطويلة المتسخة!! قلت محدثا نفسي: ) وش اللي جابني من هالشارع .. الله يستر(، فتحت النافذة وققلت : آمر ياخي؟ فقال أبيك توصلني للروضة..!! فقلت لا بأس، لأني سأمر من خلالها فعلاً!! وعاد يقول: عسى ما عليك كلافة؟؟ فقلت: لا ياأخي اركب حياك الله!! وما إن ركب السيارة إلا ووقفت على واقع الحال عن قرب. إنه يا سادة يا كرام شاب في العشرين من عمره، وسيم الملامح، عيناه الحمراوان تنطقان بسهر طويل لا ضرورة له!!
حديث غير مترابط، عدم قدرة على التركيز، ثرثرة بلا توقف، ارتجاف وتلعثم في كل كلمة.. إلى آخر الملاحظات. أخرج سيجارته الوحيدة من جيبه، وأشعلها مستخدماً ولاعة السيارة الكهربائية وبدأ ينفث دخانه تجاه الزجاج الأمامي ولم يترك فرصة لدخول بعض الهواء النقي عندما أغلق نافذته، وقال لي )قزز ( دريشتك يا بو الشباب !!! فأغلقتها رحمة في جسده النحيل الذي أخذت منه برودة الصباح كل مأخذ. قال لي : أنا طالع من شرطة الروضة، كنت في الحجز لأن ما معي إثبات!!! وبدون استئذان، مد يده لجهاز التسجيل وأدخل الشريط، مع أنني كنت أستمع للإذاعة!! وقال: هل هذا الشريط لأبو نورة ) يقصد محمد عبده (؟؟ ليبدأ بعدها سلسلة من مواضيع الثرثرة التي لا تنتهي!!!! مرة سائلا عن قصف العراق؟؟ ومرة مستفسراً كيف سقطت الطائرة المدنية الفلانية في بلاد الواق واق!! وسألني عن اسمي فأجبته، وفي تلك الأثناء لمح بعينيه تصريح الدخول لجريدة الجزيرة، فقال: أنت تشتغل بالجزيرة؟ فقلت : نعم طال عمرك!! فقال أنا عندي موضوع أبيكم تصورنه!! فيه مقيمين يبيعون بضائع غير مرخصة، باخذك أنا وصديقي مرزوق ... للموقع وبتشوف بنفسك!! كم رقمك؟ عطيناه الرقم!! واستمرت المهاترات إلى أن اقترب من الموقع الذي اختاره للنزول، ونزل فعلا من سيارتي وقفز للشارع غير مبال بالسيارات التي تحاول اللحاق بالإشارة الخضراء!! حتى كاد أن يرتطم بإحداها، وبدأ يعرب عن سخطه بتوجيه اللوم للسائق المسكين صياحا وصراخاً !!
الغرض من كل هذا يا يا سادة يا كرام هو أن نؤكد بأن شرطتنا لا زالت بحاجة لإعادة الهيكلة الداخلية، بعيداً عن الدوريات طراز 2001 وألوانها الصاخبة والباهتة حينا..!! لو أن هذا الشاب المسكين قد تم عرضه على موظف مختص )أخصائي علم نفس(، لأدرك على الفور بأن هذا المسكين يعاني اضطراباً حاداً في الشخصية، وهو بحاجة ماسة للمساعدة، ولكن أقسام الشرطة لدينا لا تستعين بأمثال هؤلاء المختصين، ) والذين تتوفر منهم أعداد كبيرة تقبع في البيوت دون عمل(، مع أن بعض الحالات التي يتم إيقافها لا تعي ما تقول .. فيأخذ الأفراد المناوبون ما يقال على محمل الجد، ويعاملون هؤلاء معاملة المذنبين!!!! وفي الحقيقة ما هم إلا ضحايا لواقع أمراضهم وأوهامهم الفكرية، وربما كان لجهل الأسرة دور في زيادة حجم المأساة، باعتقادهم بأن الولد) داشر ( والدنيا ستتكفل بتربيته!! أو أن به مس من ) التنسيم( وهو بحاجة )للكوي( أو المداواة بالأعشاب!!!
وهنا يأتي دور الشرطة الاجتماعي... إذ لو تم توفير المختص، لأمكن توعية الأهل بضرورة علاج الابن، ولأمكن توعيتهم بأساليب التعامل مع من هم في مثل حالته، والمستشفيات والعيادات القادرة على استيعاب مشكلته والوقوف على علاجها. هل هذا صعب أم هو مستحيل الحدوث؟؟؟
متى سيكون لدينا مختص في كل قسم شرطة يقوم بدراسة الشخصية وتحليلها، وهل بقاء هذه الشخصية في الحجر )إن كان من النمط السيكوباتي( ذو أثر سلبي على المتواجدين في الحجز من صغار السن وأصحاب القضايا المرورية السطحية؟؟!! وإن كان أحدهم من هواة التفحيط، فهل الدافع هو الاكتئاب أم الفراغ أم الطيش؟؟؟ وغير ذلك من مئات الاحتمالات القائمة، والتي إن تم علاجها بشكل صحيح، فسيستعيد المجتمع عنصراً بناءً وفاعلاً بعد أن كان هذا الشخص عبئاً على أهله ومجتمعه!! وللحقيقة فإن وجود هؤلاء في كل قسم من أقسام الشرطة سيساعد رجال الأمن على تدبر وسائل علمية للسيطرة على أعنف الشخصيات وأكثرها ميلا للإجرام. كما سيكون الجانب الوقائي في مساعدة من يحتاج، وكذلك منع استفحال المشكلة في حالة من يدخلون الحجز لأول مرة بسبب سرقة اسطوانة غاز، أو سرقة )طاسات( سيارة أولاد الجيران، فهذه الانحرافات المبدئية في سن المراهقة يمكن أن تستفحل وتزمن لتتحول إلى عادة قبيحة لمجرد التمرد ومعاندة الرقيب فلان الذي كان قد أوسع صاحبنا تهزيئاً ولوما ..!!
نحن بحاجة فعلية يا شرطتنا العزيزة لوجود مختصي علم النفس لمساعدتكم في إيجاد الأجوبة، والحلول البديلة، والوسائل الوقائية بطرق علمية ومدروسة وسليمة. وصدقوني.. نحن بذلك ننقذ الكثيرين من أبنائنا من متاهات الأمراض النفسية، ودوامة الانحراف، والتي يعرف دارسو علم النفس جيداً كيفية التعامل معها..!! أعذروني فقد توسمت في ذلك الفتى شاباً ينفع نفسه وأهله بالعمل بدلاً من البقاء ضحية لمرض يمكن علاجه!! دعونا نساعد الأهل )خصوصا أولئك الذين لم تمكنهم ظروفهم من الانضمام لقافلة التعليم ( على علاج أبنائهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة !! دعونا نستفيد من إمكانات أبنائنا المتعلمين في تخصصاتهم الأصلية!! ولن استبعد أن يجد هذا الحلم حيزا من الاستجابة، فالقائمون على هذا القطاع الحيوي مدركون تماماً لأهمية علم النفس في عصرنا هذا، ولا داعي لأن ننتظر تطبيقه في العالم الغربي، فنحن أدرى بحاجاتنا ومشاكلنا، ويجب أن نعالجها بسرعة وحكمة في آن واحد، فللشباب طاقة هائلة يمكن لنا أن نستفيد منها وأن نوجهها فيما يخدم مجتمعنا وبلادنا، فالأمراض النفسية لا ترحم مصابها، وإن لم تجد الحلول المناسبة في أقصر وقت ممكن فسوف تزداد تضخما وإصراراً على البقاء، وهذا ما لا يريده أي فرد لنفسه أو لأسرته أو لمجتمعه !! هذا، ودمتم بخير .
ملاحظة : هذه الواقعة حدثت فعلاً في شهر ذي القعدة من العام 1421ه في الأيام القليلة التي سبقت إجازة عيد الأضحى المبارك .
الشيخ محمد بن ناصر العبودي
|
|
|
|
|