| عزيزتـي الجزيرة
إن الناظر المتبصر في أمور الحياة وعجائبها، والناظر في سلوكيات الإنسان وحركاته، يدرك أشد الادراك ان الإنسان مهما بعد عن الطريق المستقيم فإنه سيأتيه يوم يعرف فيه الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، فهذه سنة الله في خلقه، قال تعالى: "وهديناه النجدين".
ومن فينة لأخرى ومن زمن الى زمن تظهر أصوات تنادي بأن ما هو موجود الآن لن يتغير، وإنما هو ثابت لن يتحرك ويتبدل، وفي هذا تناقض مع سنة الله في خلقه، التي تقتضي التغيير والتبديل، قال تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس".
وإن من الأشياء التي تردد بعض الأصوات بثباته وعدم تغييره هو الاقتصاد، نعم الاقتصاد فهناك أصوات اقتصادية متخصصة تدعي بأن الاقتصاد الرأسمالي هو الاقتصاد السليم والثابت مدى الحياة. وهو الذي أظهر سلامته وقوته وقدرته على مواجه الأزمات الاقتصادية الخانقة،بل انه جاء ليستمر ويسود في جميع الأنظمة الاقتصادية العالمية.
وإني إذ أشارك بهذا المقال من باب ابداء الرأي ووجهة النظر الشخصية، وان من المعلوم ان كل إنسان لابد ان يصيبه الزلل في بعض كلامه، وحسبي في هذا جهلي بسبل وطرائق التخصص، فأقول مستعينا بالله:
ان العارف بكيفية خروج النظام الرأسمالي الى الوجود يدرك انه لم يأت إلا نتيجة لعوامل تاريخية أدت إلى ظهوره، وان القواعد والأسس التي قام عليها إنما جاءت نتيجة لردة فعل لما هو قائم في ذلك الوقت، التي تزول بزوال المسبب لها، وأهم تلك العوامل هي سلطة الكنيسة على الناس واستعبادها إياهم في أوروبا، إبان العصور الوسطى )المظلمة( التي كانت بالمقابل عصر الحضارة الإسلامية وازدهارها في ذلك الوقت من التاريخ، وأيضا تسلط الحكام والولاة على الناس الى حد التأليه والعبادة، وفرض الرقابة الدقيقة على سلوك الناس وتفكيرهم ومحاسبتهم على كل ما يخالف تعليماتهم، ومن العوامل أيضا تسلط الكنيسة على العقل البشري مما أدى الى تحجيم دور العقل وبالتالي تطويعه لكل ما تأتي به الكنيسة من خرافات وضلالات حتى ولو كانت مصادمة للحقيقة المثبتة والملموسة،مما حدا بالعالم الفلكي المشهور )جاليليو( الى مخالفة الحقيقة والعدول عن أطروحاته العلمية التي توصل إليها، والقول بما قالته الكنيسة بأن الكرة الأرضية ثابتة وان الشمس هي التي تدور حولها، وذلك خوفا على حياته.
ولقد جاء النظام الاقتصادي الحر نتيجة لردة فعل الناس تجاه الأوضاع القائمة في ذلك الوقت من الكبت والتضييق، ونتيجة لكفايات العديد من الباحثين والفلاسفة الأوروبيين في القرن السابع عشر الميلادي الذين أسسوا لقيام هذا النظام من خلال ما طرحوه في كتاباتهم من أفكار مؤسسة لهذا النظام، من أمثال )آدم سميث( المعروف بعبارته الشهيرة التي أسست لهذا النظام وهي: )دعه يمر، دعه يعمل، دعه يربح(، وهناك )جون ملتون( و )جون لوك( و )جون ستيورات ميل( وجميعهم دعوا الى الحرية الاقتصادية والى سوق حرة لتداول الأفكار، وبذلك ظهرت الديموقراطية وظهر النظام الرأسمالي الحر.
ومن بين ما يحمله هذا النظام الاقتصادي من فلسفات هي حرية الفرد الكاملة في كسب المال والتصرف به بأي وسيلة ممكنة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، حتى يجني منه الربح والفائدة، ولعل هذا يفسر شيوع الربا في النظام الاقتصادي الحر، فأصبح هم الفرد في ظل هذا النظام هو الحصول على المال بأي وسيلة وتشغيله لكسب الربح بأي وسيلة كانت.
وبناء على ذلك شجع النظام الاقتصادي الحر سياسة الغرائز المادية لدى الإنسان مع تفريغه من قيمه الدينية والروحية التي تمليها عليه فطرته الإنسانية السليمة في التصرف بالمال، وأدى ذلك الى تسلط الفرد على مجتمعه، وعلو سيادته على سيادة الجماعة، وظهرت المنافسة بين الأفراد، وانطلقت بدون قيد ولا رقيب فنشأت الاحتكارات الضخمة ونشأ عنها أضرار كبيرة، فأصبح المال دولة بين الأغنياء فقط، مما زادهم غنى، وزاد الفقراء فقرا وجوعا، ووسع دائرة الفصل بينهما مما أدى إلى ظهور ما يسمى بالطبقات الاجتماعية التي حلمت الشيوعية الاشتراكية بالقضاء عليها، وهذا لعمرو الله واضح وجلي في الأمم الغربية الآن، التي تعاني من تسلط الفرد على المجتمع وتفشي البطالة وتردي النسيج الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
كل ذلك أدى إليه النظام الاقتصادي الحر، ومما يفسر الانهيارات والأزمات الاقتصادية التي تهز العالم والتذبذبات الاقتصادية بين وقت وآخر هي دخول الربا في صلب الجسد الاقتصادي ونفوذه في جسمه ودورانه في دمه، وجعله هو المحرك الرئيس لعملية الاقتصاد واستثمار المال، حتى لو اختلفت التسمية وسمي بالفوائد ومن ثم بالعوائد، وعندنا نحن المسلمين شريعة غراء وقواعد ثابتة أنزلها الحي القيوم ومنها قوله تعالى: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" وهذا دليل واضح على ان دخول الربا في أي شيء فإن الله كفيل بمحق بركته وسحقه، وجاء في كثيرمن الآيات القرآنية ما يستدل به على تحريم الأخذ بالربا وانه سبب في إهلاك من أخذه، قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه" الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه(، وهناك الآيات والأحاديث الكثيرة التي تنهي عن أخذ الربا لا يتسع المقام لذكرها.
وبالنظر الى أحوال البشر العجيبة وأنظمتهم الموضوعة وتسلسل حياتهم المسرودة، فإن الإنسان ليستغرب أشد الاستغراب وينبهر أشد الانبهار لما يحدثه الله فيهم من تغير وتبدل في الأحوال، فعندما ساد النظام الاقتصادي الحر وعم جميع اقتصاديات العالم، وتجلت لكل مبصر واع سلبيات ومخاطر هذا النظام الذي لم يأت للمجتمعات الإنسانية إلا بكل ضرر وخطر، اتجه النظام الاقتصادي العالمي الآن - كبداية لتوجه عالمي وشيك - الى الأخذ بالنظام الاقتصادي الإسلامي في المرابحة والمضاربة واستثمار المال، البعيدة عن الربا وصوره، لما فيه من أمن وحفظ مال ونقاء طريقة، الى درجة ان بنكاً من أعرق البنوك الأمريكية بل والعالمية وهو بنك )سيتي بنك( الأمريكي فتح قسما خاصا بالاستثمارات الإسلامية في بعض فروعه، وذلك تبعا لعلمه بميزاته وبعدم وجود مخاطر على رأس المال المستثمر، مما يدل على بداية انهيار النظام الرأسمالي الحر، كما انهار من قبله النظام الشيوعي الاشتراكي، مما يبشر بانبعاث النظام الاقتصادي الإسلامي من جديد لكي يحيا العالم ويبعد عنه شبح الأزمات والكوارث التي صنعها البشر لأنفسهم باتباع أنظمة وضعية ليس لها أساس متين لتأخذ منه الاستمرارية والصمود، وبذلك تدور الدائرة للإسلام وأهله، وأن الله محقق وعده بنصر دينه وعباده الصالحين الى يوم الدين ولو كره الكافرون.
عبدالرحمن الرميح الرياض
|
|
|
|
|