| مقـالات
هذا الجهاز أو المكتب الذي تفوح منه في أغلب الجهات رائحة الفئران والصراصير ليست لها رائحة مميزة فعلياً تتكدس فيه كافة المكاتبات من وإلى ذات المصلحة بما في ذلك وهذا هو المهم التعليمات التي أصدرتها الجهات المسؤولة وهي تدعى ب «التعاميم» وربما نحن أكثر الناس اصداراً لمثلها لتغير بعض البنود أو ايضاحهاً إن لم يكن لالغائها وكانت المشكلة قبل استعمال الكمبيوتر هي تذكر فحوى تلك التعاميم لأنها انما تعتمد على الذاكرة وقد كان أحد الزملاء قبل أن تتلبد ذاكرته وهو الصديق عبدالله نور مرجعاً في الجهة التي يعمل فيها لتذكر أرقام التعاميم الواردة والصادرة سقى الله أيام زمان يا نور القلب وقد كان هذا الصديق الجميل حافظة فريدة إذْ انه عندما يطلب منه القاء محاضرة يكتبها ثم يحفظها عن ظهر قلب ومع ذلك فإنه يمسك بورقة المحاضرة للتذكير بها ولا يفتحها غالباً وقد قيل لي بأن هناك زميلاً آخر يسير على نفس خطاه هو المبدع أحمد القاضي من شباب جيزان يكتب النص القصصي ثم يحفظه ويلقيه عن ظهر قلب. وهذه الموهبة تحتاج إلى دراسة علمية اتهيب من تفسيرها لأنها في اعتقادي موهبة الهية يصعب فهمها.
وبلادنا تزخر بالكثير من المواهب التي لا تجد من يعنى بها أو يتعهدها بالرعاية حتى تصل إلى مداها وهي نقطة تضعنا أمام محاسبة تاريخية ولعل المؤسسة التي حرص سمو ولي العهد المعظم على ايجادها تحت مسمى «رعاية الموهوبين» سوف تحقق هذا الجانب إن شاء الله. وأعود إلى عنوان هذه المشاركة فاتذكر بدون موهبة مميزة بأن أحد الزملاء وقد توفي يرحمه الله اسمه محيي الدين القابسي كان يتولى في التلفزيون اصدار برنامج «مجلة التلفزيون» قبل ربع قرن. وكنا نحن الجديدين على التعاون مع هذا الجهاز الذي كان يرأسه الأخ يوسف دمنهوري في ذلك الحين قبل أن تتسلمه قدرة إعلامية كبيرة هي شخصية سعادة الأستاذ الكبير الدكتور عبدالرحمن صالح الشبيلي عضو مجلس الشورى ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة الصحفية سابقاً أردنا أن نتتلمذ على يد الأستاذ القابسي وأذكر من الزملاء في ذلك الحين الصديق الفنان عبدالعزيز الحماد والأخ راشد الفهد الراشد. فكان القابسي يعتمد كما اخبرنا أو كما رأيناه يفعل يعتمد بالدرجة الأولى على الأرشيف في تحرير تلك المجلة الأسبوعية لعدة سنوات عن طريق الرجوع إلى المادة المسجلة على الأشرطة فكان يرحمه الله بذاكرته الجيدة يعرف معظم المواد المسجلة في مكتبة التلفزيون فيعتمد إلى المواءمة بينها في حلقات متشابهة بمعنى أنه حين يقرر أن يعالج موضوع البحار مثلاً فيأخذ في حشد ما يتواجد لدى المكتبة من هذه المادة ليتولى التعليق عليها ثم قد يحتاج لاحقاً إلى موضوع الأنهار في مادة الماء ليعود إليها مع بعض التعديل دون أن يفطن المشاهد إلى التشابه في تلك المواد لأن التحوير الذكي يبعد معالم التكرار. تداعت إلى ذهني هذه الذكريات وأنا أحاول إبراز أهمية الأرشيف في الكثير من أمورنا الثقافية، قبل أن يأتي السيد «الكمبيوتر» ليقول لنا: لا داعي لاشغال أذهانكم بمثل هذه الأمور، لأن ذاكرتي تستطيع أن توفر عليكم هذا الجهد. ولا أريد أن اترحم على ذاكرتنا التي سوف نضطر إلى احالتها للتقاعد أو التقاعس إنما اتساءل: هل سوف يكتب علينا أن نحيل الكثير من قدراتنا إلى الاستيداع في مواجهة الاكتشافات العلمية حتى نغدو مع الزمن مجرد كائنات تتحرك بالايحاء دون تركيز أو تشغيل الذهن. أعرف أن هناك من سيجيب بأن الكمبيوتر هو اختراع إنساني ولا يمكنه أن يتفوق على العقل البشري الذي أوجده. هي اجابة صحيحة إنما إذا نظرنا إلى أبعد من ذلك أي إلى الركون إلى اخماد جذوة العقل بمثل هذه المخترعات التي سوف تؤدي إلى التواكل تدريجياً حتى تتبدد المواهب وهنا تحدث الكارثة التي تنتظر البشرية عندما تخلو الساحة من المفكرين والعلماء. والله بصير بعباده.
|
|
|
|
|