| مقـالات
يشكل موسم الحج تحدياً كبيراً لمختلف القطاعات الحكومية ذات العلاقة وذلك كل عام، وقد تحققت نجاحات كبيرة وبشكل تراكمي فأصبحت انجازات ومكتسبات وطنية كبرى يجب المحافظة عليها وتحقيق المزيد منها، ولأجل ذلك فمن المهم اسهام جميع المخلصين الذين يعنيهم أمر هذه الفريضة العظيمة وتعنيهم سمعة هذه البلاد قبلة المسلمين في شتى انحاء العالم، بغض النظر عن مواقع عملهم او تخصصاتهم، طالما انه يسهم في خدمة ضيوف الرحمن وأداء هذه الرسالة الشريفة.
ومن الملاحظ ان كثيرا من الذين يكتبون عن الحج ومناسكه وتنظيماته لم ينزلوا الى الميدان وقد لا يعرفون اين تقع الجمرات من منى؟ وربما لا يفرقون بين اركان الحج وواجباته وشروطه، فقد يكتبون وهم قابعون في مكاتب وثيرة أشبه بالأبراج العاجية، مما يجعل مقترحاتهم لا تعدو كونها خطط طوارئ او مسكنات مؤقتة او انها وفي احسن أحوالها حلول جزئية سطحية لا تتسم بالعمق وبعد النظر، تأخذ في الحسبان اللحظة الراهنة فحسب، فيصير ضررها أحيانا اكبر من نفعها على هذه البلاد حكومة وشعبا سواء على المدى البعيد او حتى على المدى القريب.
هذه الكتابات التنظيرية التي غالبا ما تنحو منحى التبرير والاسقاط، تكشف عن افلاس كاتبيها وعجزهم وفشلهم في ايجاد الحلول الفعالة ذات الجدوى العملية، فمنطقهم أشبه بالمثل العامي العاجز «باب يجيك منه ريح سده واستريح» دون تفكير في فتح أبواب اخرى أنسب او تقدير لما يحدثه سد الباب من ازدياد لشدة الريح الناتجة عن سد الباب دون ايجاد منافذ اخرى لها.
وعند النظر لطبيعة الحج سنجده عملا تطبيقيا بحتا، فكما انه يصعب فهم مناسك الحج وأحكامه على الطلاب دون تطبيق لشعائره، فمن الصعب ايضا على من لم يقف على ظروف الحج وملابساته ميدانيا ان يقدم حلولا ناجحة للرقي بتنظيماته والرفع من كفاءة الأداء فيه، فالحج إذن بأمس الحاجة للحلول النابعة من الميدان اكثر من غيرها.
ودعونا نتساءل، ألا يمكن تمكين كل مَنْ يملك الرغبة والقدرة وسائر شروط الحج من أداء مناسك الحج؟ ولِمَ لا يصبح ذلك طموحا نعيشه في هذه البلاد يتحول الى هدف نسعى لتحقيقه ونبحث في سائر السبل المهيئة له؟ عندها نكون قد حققنا نجاحا لا يضاهى وشرفا لا يبارى في الدنيا والآخرة ان شاء الله تعالى.
عند تأمل الوضع الراهن لمشاعر الحج وتنظيماته ومقارنته بما عليه الوضع خلال العقود الثلاثة الماضية، نجد ان هناك ظواهر سلبية عديد كانت قائمة ثم تحولت الى جزء من الماضي، واصبحت حديثا بعد ان كانت حدثا، وذلك بفضل من الله تعالى ثم بتضافر الجهود المخلصة. ومن هذه الظواهر شح المياه، وتراكم النفايات الى ما بعد رحيل الحجاج، والروائح الكريهة والحشرات الناتجة عن الذبح العشوائي في انحاء منى، واهدار كميات من لحوم الهدي ملقاة في أحواش البيع، وندرة دورات المياه وبدائيتها، ومؤخرا ظاهرة الحرائق وضربات الحرارة.
وعندما نذكر هذه الظواهر ونشيد بالقضاء عليها على سبيل الاعتراف بالفضل لأهله فاننا في الوقت ذاته نتمنى ان نلحق بها ظواهر اخرى لا يزال يعاني منها ضيوف الرحمن، وان كان بعضها قد خفت وطأته نسبياً، ومن ابرز هذه الظواهر التي تفرض نفسها والتي تعنينا هنا هي الزحام على جسر الجمرات وما ينتج عنه من وفيات.
من هنا تأتي هذه المحاولة لتحديد ابرز المشكلات التي تشكل عقبة دون اداء هذه الفريضة بشكل ميسر في الوقت الحالي، وامكانية الرفع من قدرة المشاعر على استيعاب عدد أكثر من الحجاج ويتم التركيز هنا على مشكلة واحدة وهي الزحام عند الجمرات وتبعاته.
تحديد المشكلة:
الزحام الشديد عند الجمرات وذلك في حالتين:
الحالة الأولى: عند جمرة العقبة صباح يوم العيد.
الحالة الثانية: عند الجمرة الصغرى وقت الزوال اثناء نفرة الحجيج في اليوم الثاني عشر.
تحليل الأسباب وتصنيفها:
عند النظر لمشكلة الزحام في الجمرات يجب عدم اختزال المشكلة والنظر اليها على أنها راجعة لسبب وحيد، قد لا يكون في حقيقته سببا بل قد يكون من اعراض المشكلة او أمرا مرغوبا يحسن استثماره والتعامل الايجابي معه، مما يسبب نوعا من التسطيح والارتباك او التخبط عند وصف العلاج ووضع الحلول، كما يفوت فرصا مهمة في الاستفادة بمختلف جوانبها.
وبالنظر لأسباب الزحام على جسر الجمرات نجد انها تختلف وتتعدد بناء على بواعثها، فبعضها يرجع لرغبات ودوافع او حاجات للحجاج كما ان منها ما يعود للتنظيم وبعضها عائد لطبيعة المنطقة وبنية الجسر وأحواض رمي الجمرات.وبتصنيف اسباب الزحام وتحديد طبيعتها يسهل التعامل مع كل سبب وبحث سبل الحد من الزحام الناتج عنه، لذا فيمكن عزو الزحام الى الأسباب التالية:
أولا: أسباب أصلية:
وهذه الأسباب يصعب تلافيها او الغاؤها لأنها راجعة الى رغبة الحجاج ، ومن الأمثلة على هذه الأسباب:
1 تزايد أعداد الحجاج.
يشكل هذا العامل سببا كبيرا في حدوث الزحام في جميع المشاعر، وليس عند الجمرات فحسب.
2 تعجُّل الحجاج.
ويبرز هذا العامل في حالتين : أ يوم العيد للتحلل. ب: يوم النفرة للانتهاء من مناسك الحج وعودة الحاج الى بلاده، ويعتبر رغبة مشروعة للحاج ينبغي تحقيقها قدر الامكان وتهيئة الظروف اللازمة لتيسيرها.
ثانيا: أسباب تنظيمية
وهذه أسباب يمكن تلافيها بالتنظيم وتأمين البديل المناسب، وأبرز مثال عليها ما يعرف بظاهرة الافتراش، حيث تتضح الجهود المبذولة خلال الأعوام الأخيرة في الحد منها، وذلك من خلال تهيئة الخيام المقاومة للحريق، وتنظيمها لاستيعاب الحجاج واتخاذ الاجراءات الحازمة لإلزام كل مؤسسة نحو استيعاب حجاجها، وقيام رجال الأمن بدور مهم لمنع الحجاج من الافتراش في جسر الجمرات.
والمثال الآخر: الانتظار قرب الجمرات للحجاج الذي مازال يسهم وبشكل فاعل في حدوث الزحام، رغم جهود التوعية الواضحة.
يضاف الى ذلك ظاهرة اصطحاب الأمتعة اثناء الرمي التي يعزو بعض المسؤولين حدوث التزاحم والوفيات اليها.
ثالثا: أسباب عمرانية
وهي أسباب تتطلب نوعا من التنظيم او تعديل في بنية الجسر، ومنها:
1 محدودية المكان وقلة المساحة المتاحة عند الجمرات او على الجسر:
عند عقد مقارنة بين المكان المتاح وجموع الحجيج التي تتردد عليه خلال أيام التشريق، ندرك كم هو محدود ذلك المكان الذي تقام فيه شعيرة رمي الجمار،
2 من الظواهر التي تضاعف مشكلة محدودية المكان وشدة تأزمها، ان الرمي يتركز بشكل كبير جدا في جوانب الحوض المقابلة لجهة قدوم الحجاج الذين يرمون «اي من الشرق» فليس هناك توزيع متماثل للحجاج على الحوض، وذلك لعدم خبرة الحجاج او توجيههم بهذا الخصوص، وربما يساهم شكل الحوض الدائري في استقطاب الرماة في جهة معينة وتكدسهم لفترات طويلة تسبب ارهاقا واعياء لبعضهم ولا سيما الضعفة منهم.
ما سلف هو عرض مختصر لأبرز الأسباب المؤدية للزحام اثناء رمي الجمار، وتحديد للعوامل التي تزيد منها، وهي تمهيد مهم لعرض الحلول المناسبة في ضوء معرفة هذه الأسباب وعلاقتها الوثيقة بهذه الظاهرة.
وفيما يلي حديث عما يتيسر اقتراحه وطرحه من الحلول التي آمل ان تأخذ حقها من العناية والاهتمام ونصيبها من الدراسة والتقويم، ولعلها تكون ارهاصا لحلول افضل منها ان شاء الله.
أولا: الحلول والمقترحات المتعلقة بالمشكلات الناتجة عن أسباب أصلية:
ذكرنا ان أبرز هذه الأسباب هي تزايد أعداد الحجاج ورغبة بعضهم في التعجُّل، وتعتبر هذه الأسباب مؤشرات ايجابية او حاجات مشروعة طالما انها لا تضر ويمكن تحقيقها، لذا فالأولى هو بذل الجهود بأقصى ما يمكن لتبيتها، والاجتهاد في تذليل ما سواها من العقبات للمساعدة في تخفيف اثر هذه الرغبات وما قد يحدث عنها من مشكلات.
فالحل لتزايد اعداد الحجاج لا يكون في تقليل اعدادهم، ولكن في امتصاص هذا الزحام بتهيئة الأوضاع لاستيعابه والتخفيف من آثاره، حيث يفترض ان يشكل لنا هذا العامل مؤشرا جيدا، ويتم استثماره وتهيئة الظروف المناسبة لتحقيقه تدريجيا في ظل معدل نمو سنوي، لاسيما في ظل الاهتمام المتزايد بجذب عدد اكثر من الأجانب للسياحة في بلادنا. فلا بد ان يشمل هذا الاهتمام جذب الحجاج ورفع معدل تزايدهم السنوي لما له من ايجابيات دينية واعلامية واقتصادية وسياسية اذا احسنا التعامل معهم والاستفادة من وجودهم، ولئلا نتهم بالتناقض فلا بد من وضع هدف استراتيجي نسعى لتحقيقه ولو تدريجيا وهو فتح المجال لكل راغب لأداء الحج كما كان عليه الوضع قبل 15 عاما لا سيما وقد زالت الملابسات وتلاشت الظروف الداعية للحد من عدد الحجاج وبرزت معطيات ومستجدات عالمية تشجع على التقارب والتواصل بين
شعوب العالم ولا شك ان الشعوب الاسلامية اولى بهذا التواصل، ويعتبر الحج موسما حيويا مهما لتوفير هذا المناخ وتحقيق اهدافه.
انها دعوة وطنية مخلصة لاعادة النظر وبجدية في تحقيق رغبة كل مريد للحج دون اي عقبة لا علاقة للحاج بها، وليسطر التاريخ لهذه البلاد المباركة شرف خدمة الحجيج والمكانة السامية لرعاية ضيوف الرحمن مهما زاد عددهم، وقدرتها على استيعاب كل مريد للحج وتذليل العقبات وسرورها بهذه المنزلة التي لم تزل مفخرة ومنقبة للأمم منذ رعاية قريش لها في الجاهلية حيث السقاية والرفادة والعمارة والى يومنا هذا.
ثانيا: الحلول والمقترحات المتعلقة بالمشكلات الناتجة عن أسباب تنظيمية:
تتلخص هذه الأسباب بالانتظار قرب الجمرات وحمل الأمتعة أثناء الرمي، وللتعامل مع هذه الأسباب لا بد ان نتقبل حاجة الحجاج لأماكن يتفقون على الالتقاء بها بعد انهاء رمي كل جمرة، الا ان الخلل هنا هو قرب هذه الأماكن التي يتفق عليها من موقع الجمرة، وللتعامل مع هذه الظاهرة لا بد من التوعية من تخصيص أماكن جانبية للانتظار المؤقت بين الجمرات ، وارشاد الحجاج اليها، وضرورة ابعاد اللوحات الارشادية من موقع الجمرة لكي لا تتحول الى مواقع يتفق الحجاج على الالتقاء عندها قريبا من الخطر.
أما فيما يتعلق بظاهرة اصطحاب الأمتعة أثناء الرمي، ألا يمكن تفاديها بتأمين مواقع آمنة لايداع الأمتعة بصورة مؤقتة قريبا من الجمرات ثم منع الحجاج عند الجسر من حمل أمتعتهم اثناء التوجه الى الرمي.
ثالثا: الحلول العمرانية المقترحة:
أولا: تكبير الحوض بمعنى زيادة محيط دائرته، مما يتيح لعدد أكبر من الحجاج الوصول اليه والاقتراب منه، الا توسيع دائرة الحوض ستكون على حساب المساحة المتاحة من الجسر للمشاة وللمارة مما يتطلب زيادة في عرض الجسر وهي عملية مكلفة.
ثانيا: لتلافي السلبية الناتجة عن توسيع الحوض، يحسن التفكير في تغيير الشكل الدائري لحوض الجمرة الى اشكال هندسية اخرى اكثر ملاءمة للرمي ولتلقائية الحركة وانسيابها مثل شكل القطع الناقص ويكون طول القطر العرضي «الاتساع» هو نفس طول القطر للحوض الدائري الحالي او أقل ويستفاد من امتداد الجسر المتجه شرق غرب في زيادة محيط الحوض الى الضعف او اكثر مع الأخذ بالاعتبار بقاء مخروطية الحوض وضمان التقاء الجمرات التي ترمى عند الشاخص كما عليه الوضع القائم وتعديله حسب الشكل الهندسي المقترح، مما لا ينتج عنه اي إشكال شرعي ان شاء الله تعالى.
ثالثا: قد يكون من الأنسب ألا يكون مركز الحوض هو الشاخص بل كلما كانت بؤرة القطع الناقص الغربية اقرب للشاخص كان اولى، وذلك لضمان توزيع الحجاج بشكل متماثل حول جميع اجزاء الحوض ولئلا يتركز الحجاج في الجهة الشرقية من الحوض كما عليه الوضع القائم الآن حيث تقع حوادث الزحام والوفيات لأن كثافة الحجاج فيها اضعاف عدد الحجاج الذين يرمون من الجهة الغربية مع تكدسهم لفترة طويلة في هذا المكان وتدافعهم ليتمكنوا من الرمي.
رابعا: عزل المناطق والطرق المرتفعة حول منى عن وادي منى، فلو تم ربط جسر الجمرات بالمواقع المرتفعة الجبلية القريبة من الجسر من جهة الشمال والجنوب، دون حاجة للحجاج القادمين من هذه المناطق والطرق للهبوط الى أسفل الوادي، ثم مزاحمة الحجاج في الوادي والصعود الى الدور العلوي للجسر مرة اخرى،ويمكن الربط من خلال ايجاد دور ثالث لجسر الجمرات بعد اعتبار الرأي الشرعي ويكون متصلا بالمواقع المرتفعة مباشرة ومخصصا لها، اسوة بمشروع جسر المروة المتميز الذي يربط سطح المسجد الحرام بالأحياء المرتفعة خلف مبنى رئاسة الحرمين الشريفين، دون حاجة الى سلالم كهربائية وبهذه الطريقة يمكن تحقيق عدة اهداف مهمة منها:
1 خدمة القادمين من مكة دون الحاجة الى هبوطهم لبطن الوادي بمنى.
2 الاستفادة من الطبيعة الجبلية كما هي، وتجنب دفع تكاليف باهظة لمساواتها بمستوى الوادي.
3 عدم الحاجة الى وجود سلالم كهربائية ذات تكاليف في الشراء والصيانة والاستخدام.
4 المحافظة على معالم الطبيعة الجغرافية للمنطقة وحفظها دون تغييرات جوهرية.
خامسا: دراسة امكانية تشغيل سيور متحركة بعد الجمرة الصغرى والكبرى، تسرع من تفريغ كثافة الحجاج حول الجمرات. بطول مائة متر وعرض خمسة امتار على جانبي الجسر، بعد جمرة العقبة والجمرة الصغرى في الدورين العلوي والأرضي.هذا ما تيسر عرضه من الآراء والمقترحات التي جاءت بعد مناقشات عديدة مع بعض الحجاج والاستماع الى مرئياتهم حولها، وقد لاقت اعجابهم وأبدوا استحسانهم، ويبقى أنها بحاجة الى دراسات علمية عميقة وبحوث مستفيضة تبرز مزيدا من الجوانب الايجابية او السلبية والبدائل المثلى، لتحقيق ما فيه تيسير الحج وتمكين اعداد اكبر من المسلمين لأداء فريضة الحج دون صعوبات، ونيل الشرف الدنيوي والأخروي لخدمة أكبر عدد من ضيوف الرحمن كل عام.
ختاما فان حديثنا عن جسر الجمرات وملابساته لا يعني انه هو المشكلة الوحيدة التي تحتاج الى مزيد من التأمل والبحث، بل هذه دعوة لمناقشة عملية للمشكلات الاخرى وتقديم حلول ومقترحات عملية لها، ولا يكتفى بالنقد والتنظير الذي لا يراعي الظروف والتبعات ويكون حافلا بالشطحات احيانا، لدرجة ان بعضهم يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى بانه لم يعلم بما سيحدث من زحام شديد! ومن الحلول الساذجة القاصرة التي تطرح: المطالبة بجعل الحج في جميع اشهر الحج دون تقييده بأيام معينة! او ما يذكر من ان بعض «الخبراء» قد اوصوا بجعل الحج مرتين في العام! وأين الإمام أبو حنيفة ليمد رجليه جميعا!.
email:omaimakhamis@yahoo.com
|
|
|
|
|