| أفاق اسلامية
مما يساعد على هذا السلوك نظرات ثلاث:
الاولى: ان تعامل الناس باعتبارهم بشراً على الارض، وليسوا ملائكة اولي اجنحة، فهم لم يخلقوا من نور، وانما خلقوا من حمأ مسنون، فاذا اخطأوا فكل بني آدم خطاء، واذا اذنبوا فقد اذنب ابوهم الاول: (ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما).
فلا غرابة اذن ان يعثر الناس وينهضوا وان يخطئوا ويصيبوا وعلينا ان نفتح لهم باب الامل في عفو الله ومغفرته، بجوار تخويفهم من عقاب الله وبأسه، وحسبنا هنا قول الله تعالى: (قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم).فانظر الى ايناسه سبحانه لهم، حين ناداهم (يا عبادي) واضافهم الى ذاته المقدسة، تلطفاً بهم، وتقريباً لهم من ساحته، ثم كيف فتح باب المغفرة على مصراعيه لكل الذنوب فانها مهما عظمت فعفو الله اعظم منها.
الثانية: اننا امرنا ان نحكم بالظاهر، وان ندع الى الله امر السرائر، فمن شهد ان (لا اله الا الله وان محمداًَ رسول الله (حكمنا باسلامه في ظاهر الامر، وتركنا سريرته الى علام الغيوب يحاسبه عليها يوم تظهر الخفايا، وتنكشف الخبايا.وفي الصحيح: (امرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله، فاذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم واموالهم الا بحقها وحسابهم على الله).
ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين الذين يعلم نفاقهم الباطن حسب ظواهرهم، واجرى عليهم احكام الاسلام، وهم يكيدون له في الخفاء، ولما اقترح عليه بعض الصحابة ان يقتلهم ويستريح من شرهم ومكرهم اجابهم بقوله: (اخشى ان يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه!).
الثالثة: ان كل من آمن بالله ورسوله، لا يخلو من خير في اعماقه وان انغمس ظاهره في المعاصي، وتورط في الكبائر والمعاصي وان كبرت فتخدش الايمان، وتنقص منه، ولكنها لا تقتلعه ابدا من جذوره مالم يفعلها من يفعلها متحديا لسلطان الله تعالى، او مستحلا لحرماته، او مستخفا بأمره.واسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ارفق الناس ولا تمنعه معصية احدهم ا ن يفتح له قلبه، وينظر له نظرة الطبيب الى المريض.
واليك بعض هذه الامثلة: تلك المرأة التي زنت وهي محصنة وحملت من الزنى، جاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم ليطهرها باقامة الحد عليها، فمازالت به حتى أقام عليها الحد، ولما بدرت من خالد بن الوليد جملة سبها بها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اتسبها يا خالد والله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين بيتاً من اهل المدينة لوسعتهم! وهل ترى افضل ممن اجادت بنفسها لله عز وجل).
واليك هذا المثل الآخر: هذا الصحابي الذي ابتلي بالخمر وادمنها، واتي به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اكثر من مرة شارباً فيضرب ويعاقب، ثم يغلبه ادمانه او شيطانه، فيعود الى الشراب، ثم يؤتى به فيضرب ويعاقب.. وهكذا عدة مرات، حتى قال بعض الصحابة وقد جيء به شارباً: ماله لعنه الله؟ ما اكثر ما يؤتى به.
وهنا لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم على لعن هذا المسلم رغم مقارفته لأم الخبائث وظهور اصراره عليها وادمانه لها وقال للاعنه: (لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله) وفي رواية: (لا تكونوا عوناً للشيطان على اخيكم).فانظر رحمك الله وايانا الى هذا القلب الكبير الذي وسع هذا الانسان واحسن به الظن رغم تلطخه بالاثم! وكيف لمح كوامن الخير في اعماقه برغم ظواهر الشر على غلافه! فوصفه بأنه (يحب الله ورسوله) ولهذا نهى عن لعنه، لان هذا يحدث فجوة بينه وبين اخوانه المؤمنين، فيبتعد عنهم، ويبتعدون عنه وهنا يقترب من الشيطان ويقترب من الشيطان.
وهذا من اسرار: (لا تكونوا عوناً للشيطان على اخيكم) ولم يفصم عروة الاخوة بينه وبينهم بسبب المعصية وهي كبيرة تكررت لان اصل الاسلام يجمعهم، ويجمعه بهم.فليفقه هذه النظرة النبوية العميقة، وهذه التربية المحمدية العالية، اولئك الذين يسيئون الظن بجمهور الناس ويسقطون عصاتهم من الحساب.ان لعن الناس ولو كانوا عصاة منحرفين لا يصلحهم ولا يقربهم من الخير، بل هو احرى ان يبعدهم عنه، واولى من هذا الموقف السلبي ان تتقدم من اخيك العاصي، فتدعوه او تدعو له، ولا تدعه فريسة للشيطان. وقد قال الحكيم: بدل ان تلعن الظلام اضئ شمعة تنير الطريق.
* رئيس مكتب هيئة المناوبة الليلية ببريدة
|
|
|
|
|