| عزيزتـي الجزيرة
بدأت لأكتب عن العولمة فتعثر قلمي في حروفها الكثيرة، ووجدته يتلمس حروفا صغيرة باتت بيننا ولكننا لانراها، دخلت بكل بساطة، دون أن ندري تسرقنا، وتمتلكنا ونحن في غفلة سرمدية.
ü عن الحرف الذي أوجد الفرق بين أختين من عائلة واحدة، أما الأولى فإنها مراهقة لم تتجاوز بعد السادسة عشرة وتحمل في شنطتها جوالاً أنيقاً جميلا يشبه براءتها أما أختها الكبيرة فهي الآن في السادسة والعشرين من عمرها تتجرع ذكريات أيام خلت عندما كانت لاتجرؤ في الرد على الهاتف، بل حتى مساس السماعة بوجود والدها أو أحد إخوانها، والويل لها إن وجد سلك الهاتف متسللاً من غرفتها. إنني لا أعترض حتى وإن اعترضت! على ما تغير، ولن أدعو إلى أن تترك القراءة الآن لاسمح الله وتتوجه فوراً بقرار تسحب فيه الجوالات التي بحوزة من هم دون السن القانونية من أبنائك، ولن تفعل، ولكن دعنا نتأمل ما الذي تغيّر في عشر السنوات فقط، أم أن الأجهزة قاتلها الله داهمتنا على حين غرة قبل أن نفكر كيف نزرع الثقة في أبنائنا وبناتنا لتكون تصرفاتهم محل ثقة، ولكن هيهات، فالجهاز يدخل تغييره في سنة، أما أمور التربية فإنها تحتاج إلى توعية وإلى «وعي» من المربي يحتاج إلى عشرات السنين.
ü عن الحرف الذي أوجد عشرات الشاشات في مقهى، تبث مئات المشاهد لقنوات مختلفة بين أغنية وفيلم ولقاء وتحليلات إخبارية.. كل جلسة على قناة معينة تختلف باختلاف أمزجة الجالسين وسط إزعاج القنوات والدخان وروائح المعسل المختلفة، وفجأة يتحد الصوت فيهدأ الإزعاج ، لأن كل الشاشات توجهت إلى مشهد واحد، انتشرت الاستجابة له كالنار في الهشيم، فما أسرع استجابة الغرائز، هذا المشهد الذي انضمت من أجل سواد عينيه القنوات إلى قناة واحدة فتوحدت الشاشات لا أستطيع وصفه، وحتى لو وصفته فلن تجده منشوراً هو مشهد فاضح تراه فتقول سقاك الله يا أيام العفاف، كنا نطأطئ الرؤوس ونهمس عندما نتحدث عن مثل هذه المشاهد، فبتنا الآن نراها عياناً جهاراً، فالعشرات ممن لاتعرفهم يجلسون بجانبك يشاهدون ما كنت تستحي من التلميح له في مجلس صغير، ولايستنكرون، بل على العكس يستجيبون للمشهد «العيب» استجابة أسرع من لمح البصر، لقد تذكرت ذكريات قديمة عندما توّحدت الشاشات المتعددة في المقهى في قناة واحدة، تذكرت قبل سنين ونحن في السوق، وتحديداً في معرض للأجهزة والتلفزيونات، فكان يعجبني توحد تلفزيونات المعرض بأحجامها وأشكالها وماركاتها المختلفة على مشهد واحد تبثه القناة الأولى أو الثانية السعوديتان، فأتسمر مبهوراً، لقد كانت متعة ان أشاهد كل هذه التلفزيونات الكثيرة جميعها تبث المشهد نفسه الذي أراه في بيتنا من تلفزيون واحد.
وما أكبر الفرق بين صورة المشهد الذي أعجبني في معرض التلفزيونات، وبين التلفزيونات التي توحدت مشهداً واحداً في المقهى، ولم تعجبني.
ما الحل؟ سؤال مضحك! لا تسألني عن الحل فلن نمنع القنوات أن تبث، ولن نمنع الناس من ضغط زر التحكم لتوحيد القناة، ولكن اسألوا الذين يضعون مناهجنا وكتبنا التي تدرس، هل واكبت هذا التطور «التغيير» أم أنهم يرون التغييرات ويناقشون هل نمنع الضرب أم يبقى؟! والتغذية!! وقرارات جعلت المعلم يحتار أي أصبع يعض. إن همومنا في واد، وواقع التعليم والتربية في واد آخر. إن الأجهزة تغير الناس في وقت قصير جداً، أما التربية فإنها تحتاج إلى جيل كامل، وما تحصده الأجهزة من قيم ومبادئ، لاتسد فراغه تربيتنا سواء في المدارس أم في البيوت وحتى الإعلام.
ü وما رأيك بحرف من حروف العولمة يدعو إلى الضحك، أو إلى تصور حدوثه أما أنا فرأيته، إن أحدهم صنع «ساندوتش تمر» فقد أخذ قطعة خبز ووضع داخلها ثلاث تمرات، وراح «يفطر» لأنه صائم ووراءه عمل والوقت لايسمح بمائدة إفطار شهية، ولأنه صائم اضطر لذلك ليتبع «السنة» في الإفطار على تمرات بل لابد انكم سمعتم عن «ساندوتش الفقع»، إن هذه ليست خيالات سيأتيكم زمن تحنون فيه للماضي وللجلسات الطويلة الصاخبة التي يحتل فيها صحن المثلوثة مكانة وفضاء رحباً يتسع لكل شيء تتسع له صدورنا.
ü إنها أشياء بسيطة وصغيرة من حروف العولمة نراها ونعرفها ولا نستطيع تغييرها، تجتث كل عفيف طاهر ونجلس مكتوفي الأيدي ننتظر، فهل دخلنا مقدمات وإرهاصات الزمن المقلوب الذي بدا غريباً ومألوفاً في الوقت نفسه، تتعارض فيه العادات مع التطورات ثم ننسى كل شيء إلا اللهث وراء الحياة المتسارعة، والخوف ينصبّ من الزمن المشؤوم حين تتعارض فيه المعتقدات وما ترسخ في جذور العقل والوجدان مع مركب سائر ويسير فتألفه الناس، فنجد المستغرب كمن لاخلاق له، غريباً وسط موجة جارفة تسبح بنا إلى حافة الهاوية فتتساقط المبادئ والقيم والمتمسكون يصارعون أمواج التغيّر، إذا جاء هذا الزمن فسوف نرى أن ما يتحذلق به السياسيون وأرباب الأموال الآن من مصطلحات العولمة، يوغلون تشدُّقاً وسفسطة فيها، ستكون في الزمن القادم من صميم الحياة، لا نأبه لمن يتحدث بها، لأننا بتنا نفهم مفرداتهم ونعيش دوامة ما كان بالأمس صراعاً تتعثر حروفنا به. ثم تبدأ أقلامنا تتعثر في حروف شائكة نبحث عنا وسطها فلانجد إلا حروفاً لاهثة تضرب ألف ألف مثل ومثل على مالا يوصف، وتأتي عولمة جديدة، يتحذلق بها إلكترونيون وفضائيون، عندها لا أنا ولا أنت نستطيع قياس التغير الهائل فذاك زمن، وهذا زمن، وقد لاح في الذاكرة زمن طوت الأيام صفحته.
عبدالعزيز يوسف المزيني
الرياض
|
|
|
|
|