| الاخيــرة
لم أحس منذ فتحت عيوني على الحياة انها حديد، فهي دائما في مخيلتي حورية من لحم ودم وأحلام.
لعلني في بدابة تكوين الذاكرة كنت أحسب الماكينة جزءاً حميماً من جسد أمي تقوم عنه للضرورة لتعجن خبزنا تفتح الشبابيك وتدعو الشمس إلى سماء بيتنا أو تدع المرايا ببلور طلتها . فكنت أتحين انشغالها لاحبو وأرتمي على ذلك الجزء العزيز من مدة قامتها الى ان تأتي امي راكضة إليّ وقد تشربكت بالخيوط التي أكون قد فرطتها في محاولة الالتحام بغصن من اغصان عودها.
ولعلني في مرحلة لاحقة كنت احسب الماكينة طفلة شقية اخرى تنافسني اهتمام امي وحبها، لتضعها امام حجرها طوال الليل وعمر طويل من النهار وتسكب عليها بسخاء من قناديل عيونها شعاعا يخطف الابصار ويحول الخيوط ألوانا قزحية تفور تحت فضة الإبرة.
وحين وضعت يدي على سوادها البراق ووقفت على قدميّ الصغيرتين لأول مرة لعلني حسبت الماكينة روحاً رحيمة تمسك بي لئلا أهوي على الأرض.
وفيما بعد لعلني عقلنت فضولي المعرفي بالماكينة فعرفت بسرية تامة بيني وبين نفسي ان الماكينة مخلوق سحري يكفي ان تجلس جميلة الجميلات اليه وتقرب سلسبيل انفساها العذبة من وجهه الناحل المستطيل المائل للبياض وتضع عشب يدها على يده الصغيرة لينطلق في حيّنا والأحياء المجاورة هديل الحمام، حفيف الشجر، خرير المياه وصرير القلم وصوت فيروز. وأصير لا أستطيع ان أحصي تلك الأصوات العندليبية الهادرة المنبعثة من عناق اصابع أمي مع يد الماكينة، حتى انني عندما تحولت امي الى العمل على الماكينة بماتور كهربائي شعرت بوحشة تسري في أوصال الحجرة وأوعية الأثاث من صوت الماتور الأجش، غير أنني مع الوقت ولقدرة الصغار الخارقة على الانعتاق من قسوة اللحظة السابقة تعلمت بسرعة كيف اعشق خشونة صوت ماتور الماكينة فأشعر ان ذبذباته الغامضة تثير في نفسي شجناً دفيناً لشيء اجهله، هل لماء العماء الأول.. هل لطعم الرضاعة.. هل.. او لعله الحنين الى حداء الظاعنين في الصحراء واصوات السواني التي لا تكف عن الانبجاس من ماكينة الخياطة كلما قبلتُ يد أمي.
على ضحكات الماكينة حاكت لي أمي بمرح أول عروسة قطنية ومن أحاديثها الهامسة مع امي الى الفجر كان ابي يلبس ثياباً مصبوبة صبّاً ومحمد وفيصل يلبسان ولم يبلغا سن المدرسة بدلا عسكرية طرزتها ماكينة امي بالنياشين والأشرطة والتيجان وقلوب ترف.
وبعد ان كبرت وذهبت الى المدرسة لم يتغير احساسي بحنان الحديد الذي يتدفق من صدر ماكينة امي . كنت احس ذلك الحنان يحيط بجسدي الصغير في المريول الذي البسه دافئا حنونا من تحت ماكينة أمي.. فأشعر بالتميز والألفة معا في طابور الفصل المتشابه أو كلما صدف وأشعرتني بالغربة مساطر المعلمات.
وكنت كلما شببت عن الطوق اكثر يتبلور حبي اكثر لحديد الماكينة وارتعاشاتها الجذلى في مجرى دمي ويشتد وعيي واعتزازي بأن خلف حديد الماكينة روحاً خلاقة تنفخ فيه طاقات ماردة من خيالها وحسها. فتحول الأوجنزا الى أثواب عرائس منتشية تسحب على طريق الأشواق لا يردها الا ان تروى اطراف الثوب العرسي من ماء النهر، تحول الحرير على جسد الصبايا الى أجنحة تحلق بهن الى ملكوت لم يمتلك بعد وتحول المخمل الى خلايا نحلية تقطر عسلا حرا من مسام الملكة الكادحة على رحى الماكينة.
كانت مفردة "سنجر" اول تجربة للثغتي للنطق بكلمة غير عربية فيما لا بد انني نشأت وأظنها الحرف التاسع والعشرين من حروف الابجدية.
كلما وقعت عيني على ماكينة خياطة تفز خيولا جامحة من مخيلة امي وتركض على أوراقي.
كلما سمعت وسوسة الأساور في سهرات النساء اسمع شهقة الماكينة من شكة الابرة في مفاصل اصابع امي.. فأتأكد بما لا مجال معه للشك ان الماكينة لم تكن يوما حديداً ولكن واحدة من اعز صديقات امي.
تكيد لبطالة النساء بمكر الماكينة
تعادي الخضوع بعناد الماكينة.
تغزل أجنحة رشيقة على الماكينة فألبسها واطير مبتعدة بها عنها بينما تلتحم بالماكينة وتنهمك في حياكة احلام أشد تحديا.
تحيا ماكينة الخياطة شامخة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
|
|
|
|
|