| الثقافية
اعداد: عبدالحفيظ الشمري
تفتح «الجزيرة الثقافية» نافذة التواصل لتطل منها الاسئلة نحو المفكر، والاديب، والكاتب.. تداخله، وتجادله، وتستجلي أبرز مقومات طرحه، ومعطيات ابداعه في أحدث مؤلفاته.. لعلنا في هذا التداخل نقدم اضاءة جديدة حول افضل ما يطرح في مشهدنا الثقافي من فكر، وادب ، وإبداع.
ها نحن نتواصل وعبر زاوية «مساءلات» مع الاديب الدكتور تركي الحمد في روايته الجديدة شرق الوادي لنحاول من خلال السؤال والاجابة تقديم المفيد:
* أثارت زاوية «المساءلات» الاسبوعية لدى الاديب والروائي الدكتور تركي الحمد العديد من المعاني التي تدور حول هم روايته الاخيرة شرق الوادي ولاسيما وانها جاءت بعد الثلاثية التي اثارت الكثير من التساؤلات.. ولقيت اصداء واسعة.. ومتناقضة حتى إن عدوى هذه التناقضات عصفت بفضاء هذا اللقاء فجاءت اجاباته خليطا من المشكسات و)التبرم( من بعض التداخلات المتباينة حول )شرق الوادي( بوصفها عملا جاء بعد الثلاثية )العدامة، والشميسي، والكراديب»(.
ها نحن ننشر هذه المداخلات عبر )المساءلات( ولم نغير في إجابات الضيف.. ولم نحاول ان تكون اكثر تشذيباً وتهذيباً لبعض الاجابات التي وردت فها هو الحوار يأتي على سجيته بما عهد عن الروائي والمفكر الدكتور تركي الحمد.
* د. تركي الحمد. بعد ان رويت لنا الثلاثية كاملة.. جاءت «شرق الوادي» استنطاق الاحاطة.. لماذا لم تجعلها الاولى.. وتكون الاعمال رباعية او خماسية؟
اولاً ، لا ادري بالضبط ما الذي تعنيه، او ما الذي يجول في ذهنك، حين تقول «استنطاق الاحاطة، وربما كنت تعني خلفية الثلاثية، والعمق التاريخي البعيد لها. ولذلك، ونتيجة عدم فهمي للجزء الاول من السؤال، أجيبك على بقيته. لماذا لم تكن «شرق الوادي» هي الاولى؟ سؤال لا اجيب عنه بقدر ما ان العمل يجيب عنه. فالرواية هي التي تفرض نفسها في النهاية علي، ولا أفرض نفسي عليها حقيقة. واصارحك القول إنني عندما انتهيت من الثلاثية، وهي التي كانت فكرتها تجول في خاطري لما يقارب العشرين عاما قبل ذلك، لم اكن املك اية فكرة عن الرواية المقبلة، هذا على افتراض ان هنالك رواية مقبلة. كنت اعتقد ان الثلاثية سوف تكون «بيضة الديك» ، كما يقولون. ولكن بعد عدة اشهر من الانتهاء، بدأت الخيوط العامة لشرق الوادي تفرض نفسها، حقيقة لا مجازا، على ذهني، لدرجة انني حلمت بأحداثها العامة ذات ليلة.
امسكت القلم بعد ان تجمعت الخيوط في ذهني، فكانت شرق الوادي. ما اريد قوله هنا هو ان العمل كثيرا ما يفرض نفسه، وينسج نفسه، ويختار التاريخ المناسب لنفسه، حتى بالرغم منك. وعلى أية حال، ان كان يلذ لك، او ترى من المناسب ان تقرأ الشرق اولا ثم الثلاثية لاحقا، فافعل ذلك، واعتبر العملين عملا واحدا، وهما كذلك الى حد بعيد، اذا نظرت للخيط الخفي الذي ينتظم العملين.
* ما هذا الولع العجيب بالحكاية. ترى هل الحكاية هي القادرة على استنطاق مخبوء الماضي؟
اثران أدبيان لا اعتقد انه لا يحق لاي مثقف عربي ان يصف نفسه بهذه الصفة، ان لم يكن قد قرأهما عدة مرات، وفي مراحل مختلفة من العمر: الف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة. وعودة الى الموضوع اقول: ألم تنقذ الحكاية شهرزادا من سيف شهريار؟ ألم تكن الحكاية هي «كبسولة» الحكمة في كليلة ودمنة؟ الم تكن اجمل ما نتصوره من ايام البراءة هي تلك التي كانت فيها «الجدة» تبدأ حديثها بالقول : هنا هاك الواحد، والواحد الله في سماه العالي»، ثم تبدأ في سرد حكايتها، عندما كان كل شيء «يحكي»؟ ولا يفوتني هنا ان ادعو لاستاذنا الجليل عبدالكريم الجهيمان بطول البقاء، وهو الذي حاول ان يجمع «سبحونياتنا» الجميلة والبيسطة في «اساطيره الشعبية». وفوق هذا وذاك، وقبل هذا وذاك، الا يقول الحق سبحانه : «نحن نقص عليك أحسن القصص»؟ لا يقصها سبحانه من أجل المتعة، وان كانت فيها كل المتعة، بل من اجل العبرة والحكمة والمعنى. كل الكتب الدينية المقدسة لدى مختلف الشعوب، سواء تحدثنا عن المهابارتا الهندية، او مزامير داود ونشيد الاناشيد، او مواعظ الانجيل، تحفل بالقصة والحكاية والمثل المحكي. الحكاية والقصة والاسطورة، يا اخي الكريم، تقول في مضامينها ورموزها لا يمكن ان يقال او حتى يفهم من خلال الحديث المباشر، الحكاية خالدة ومتجددة المعاني، ومن هنا يأتي سر جمالها واثرها المستمر. لكل نص ادبي زمان ومكان، وربما تاريخ انتهاء، الا الحكاية والقصة والاسطورة، ليس لها زمان، لان المعاني تتولد منها تولد الزمان من بعضه البعض، وانبثاق المكان من بعضه البعض، بإيجاز العبارة، ليس للحكاية على اختلاف انواعها زمان ولا مكان، حتى وان كانت تتحدث عن زمان بعينه، او مكان بذاته، ومن هنا تأتي روعتها، ومن هنا تأتي قيمتها، ومن هنا يأتي خلود المعاني التي تعيش في جيناتها.. لا ادري.. هل اجبت بذلك على سؤالك؟
* الرواية رصد تاريخي.. تسيطر عليه الحكائية الحوارية. لماذا لم تترك هامشاً للتأويل؟
القضية قضية قراءة ومتلق .. لعلك قرأت الرواية على انها مجرد رصد تاريخي، وفيها الكثير من ذلك بطبيعة الحال، ولكني أعتقد انك لم تنظر اليها من زاوية مختلفة.. لا اعتقد ان المشكلة، ان كان هناك مشكلة، تكمن في النص المقروء، بقدر ما انها تكمن في قراءة النص. وفق قراءتك، التي تسميها هنا «الحكائية الحوارية»، سوف تجد عملاً مثل «حكاية بلا بداية ولا نهاية» لنجيب محفوظ مثلاً، مجرد شيء من هذا القبيل، وتغفل عن ثرائه بالرموز والالغاز المخبوءة، وما أكثرها في عمله هذا.
* القرية النجدية في شرق الوادي )الخب( الصغير في أعماق النفود.. لا يمكن ان تكون اكثر من رمز للزمان المنسي، والمكان المهمش.. كيف نفخت فيها الحياة؟
قد تكون هذه القرية قد اختفت مكانيا، ولكنها لا تزال تعيش في اعماقنا.. وربما في لا شعورنا، حتى بالنسبة لاولئك الذين لا يعرفونها من الجيل الجديد.. فهي حية كما الجمر تحت الرماد، ولم يكن المطلوب الا نفخ بعض الرماد كي تتوهج الجمرة. وعلى اية حال، اذا كنا قادرين على نفخ الحياة في ازمان سحيقة في القدم، الا يمكن نفخ الحياة في ايام لا تزال تطل علينا من نوافذ الزمن القريب!؟
* الكتابة لديك، ومن خلال «شرق الوادي» اخذت العرض المباشر، بمعنى انه لم يكن هناك فسحة للتأويل والتأمل بين حركة الافكار والعادات الماضية واللاحقة.. لماذا؟
سبق ان اجبت على هذا السؤال. وعلى اية حال، هل تريدني ان اقول مثلاً : «وعندما ارخى الليل المدلهم سدوله، تساقطت نجوم الغسق في فمي، فأحسست ببرد السحر في جوفي، وسكينة النور في عقلي، وفاحت رائحة اشجار الزيتون على جبال الفضة البعيدة، مخترقة بأريج البرتقال في حدائق النور المتوارية خلف القمر، فاخترقت ذاتي، وسكبت عصيرها في الزوايا المتوارية مني، ثم غفوت مبتسما تحت اشجار الزيزفون الشامخة بعرنينها على سفح جبل قاف، غير بعيد عن عين الحياة، وماء الخلود ينبثق من اعماقي، ورحيق السعادة ينساب في ذاتي، غير عابئ بأنسجة الدجل، وخلايا الكسل، وذرات الوحل المتسيَّبة».. كي يصبح هناك مجال للتأويل والتأمل؟ السؤال هو: عندما قرأت «شرق الوادي» ، هل استمتعت بها؟ هل اضافت شيئا الى وعيك؟ هل وجدت نفسك منجذبا اليها؟ هذا هو السؤال..
* تكتب وترشدنا الى علاقة هنا وهناك.. كأنك موكل بسرد التفاصيل التي مر بها جابر السدرة وحفيده.. انراك محقا في تقليب تلك المواجع؟
في التفاصيل يكمن المعنى.. في التفاصيل يكمن المعنى.. ثم، ان لم أفعل ما ذكرته في سؤالك، فلماذا اكتب اذاً؟ثم، قد يكون ما تجده انت مواجع، هو من المسرات بالنسبة لغيرك.. لا تجعل قراءتك هي المعيار الأوحد لفهم العمل، اي عمل وكل عمل.. وعلى اية حال، إن وجدت فيما أكتب تقليبا لمواجع لا تحبها، فلا تقرأ ما أكتب .. «وش الله حادك» .. هذا هو الامر بكل بساطة.
* اربعون عاما من التيه والضياع.. والبحث عن الذات.. اين ما حولك من عالم يضج بالحياة؟.. الم تكن تلك السهوب مكتظة بالحيوات الاخرى؟
أي سهوب هذه التي تتحدث عنها يا اخي.. لعلك تسأل وفي ذهنك تمتد سهوب روسيا، ومرابع القوقاز في آسيا الوسطى، وابطال تولستوي وغوغول.. على اية حال، لقد اجبت يا اخي من حيث سألت.. انه بحث عن ذات، لا عن الذوات..
* انت متهم بإهالة القداسة على الماضي، والقسوة في وصف الحاضر.. الماضي هو قضيتنا.. اذ لو كان جميلا، لما عاش «خب السماوي» تلك الذكريات المضنية..
والله بلشنا معكم.. البعض يتهمني بنفي القداسة عن الماضي، وها انت تتهمني بإهالة القداسة على الماضي.. وكلها قراءات على اية حال. خب السماوي ليس بالضرورة قرية من قرى الماضي، بقدر ما هو رمز لبراءة مفقودة.. ولا اقول اكثر من ذلك، فقد كدت ان تدفعني الى تفسير عملي بنفسي، وهذه ليست مهمتي..
* رواية «شرق الوادي» تكوين سردي لأسفار متباعدة. تحدث دوامات حكائية بين «خب السماوي»، ومنقولات موغلة في عتقها .. لماذا؟
انت من يجيب هنا، ولست انا.. هذه مهمتك بصفتك قارئا، وهنا تكمن لذة النص، وسحرية السرد، وجماليات الحكاية.. ام تريدني ان افسر لك كل شيء، ثم تتهمني بعد ذلك بأنني لم ادع هامشا للتأمل والتأويل.
|
|
|
|
|