| الثقافية
كتب العبادي )قال بشار بن برد:
ان في برديّ جسما ناحلا
لو توكأت عليه لانهدم |
وقال ابن الرومي:
انا من دق واستدق فما يشغل ارضا ولا يسد فضاء!
وقال المتنبي:
كفى بجسمي نحولا انني رجل
لولا مخاطبتي اياك لم ترنى |
وقال احدهم:
ذبت في الشوق فلو زُج بي
في مقلة النائم لم ينتبه
قد كان لي فيما مضى خاتم
فالآن لو شئت تمنطقت به |
وقال آخر:
لو ان ابرة رفاء اكلفها
جريت في ثقبها من دقة البدن |
فالشعراء الخمسة تصدوا الى معنى واحد، هو النحول، فلو قال احدهم: اني نحيل او ان من احبها نحيلة، ضاوية الجسم، اي عبر عما يريد ان يصف به نحوله او نحول غيره تعبيرا مباشرا واضحا صريحا، لما سمينا قوله شعرا، لخلو قوله من الجمال اللفظي الذي هو اساس الشعر واصله، او كما قال ابو العلاء «لخلوه من الكلام الموزون الذي تقبله الغريزة على شريطة ان زاد او نقص ابانه الحس»(.
والعبادي هنا يرى ان الشعر هو اللفظ الجميل او الكلام الموزون فقط وان اللفظ الجميل هو اساس الشعر واصله وان ما جعل الابيات السابقة شعرا هو تعبيرها الذي ليس واضحا ولا مباشرا ولا صريحا.
والذي اعرفه ويعرفه الناس، ومنذ فجر الشعر حتى الان، ان الوزن وجمال الالفاظ والبعد عن المباشرة والوضوح والصراحة، ليست هي ما يجعل الشعر شعرا، فجمال الالفاظ موجود في الشعر وفي النثر، والوزن موجود في الشعر وفي النظم، والبعد عن المباشرة والوضوح والصراحة موجود في كثير من فنون النثر القديمة والحديثة، كما ان هناك الكثير من الشعر الجيد، والرائع، وفيه الفاظ ليست جميلة، وفيه كثير من الصراحة والوضوح والمباشرة، ويخلو من الوزن ايضا، بنسبة او باخرى.
والعبادي يعرف ان النظم ليس شعرا ، مع ان كثيرا من النظم يتميز بالوزن والجمال اللفظي ويستعين بفنون بلاغية تبعده عن الوضوح والصراحة والمباشرة، وان الفرق معروف، قديما وحديثا، بين الشعر والنثر وبين الشعر والنظم.
والشعر الموجود في الابيات التي اوردها العبادي، وبعضها لا يتمتع بالجمال اللفظي، وبعضها يأتي على وزن مستكره وثقيل على السمع «بمنطق العروضيين القدامى، والعبادي معهم » وانما يأتي من اشياء اخرى هي ما تجعل الكلام شعرا.
والشعر القليل جدا، والموجود في هذه الابيات، اذا كان فيها شعر اصلا، وبمنطق عصرها، يأتي من الاستخدام الجديد للمعاني والمفارقات والانزياحات والانحرافات الصياغية والدلالية ومن التخييل والصدمات التي تحدثها للمتلقي في حسه وتصوره وتوقعاته وذائقته.
ومع ان الابيات التي استشهد بها ضعيفة بمنطق الشعرية، الا ان الابيات نفسها تخالف ما قاله العبادي عنها وكأنها ترد عليه.
البيت الاول لبشار بن برد واضح وصريح ومباشر، ويخلو من اي تقنية بلاغية كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز وغيرها، كما ان مضمونه ساذج، وانما جاءه ما فيه شعر قليل جدا من الصدمة التي احدثتها المفارقة في «انهدم» وفي انزياحها عن توقعات المتلقي.
وما يصح على هذا البيت يصح على الابيات الاخرى، وبخاصة، بيت المتنبي الذي قال صراحة، وكما قال بشار : انا نحيل، وعلى عكس ما قال العبادي.
اذن، في الابيات شعر قليل، وبمنطق وذائقة عصرها فقط، اما بالنسبة لعصرنا وذائقته هي نظم ركيك ساذج، وبلا هدف انساني او قضية.
ويسترسل العبادي في مقاله، من تصد للدفاع عن حياض الشعر، الى نقد ليحيى المعلمي ومن كتبوا عنه، الى غرق عميق في بحور الشعر العربي وفي عيوب الوزن والقافية والشعر، وهذه مواضيع سأكتب عنها لاحقا، لأن لي اعتراضات ووقفات رفض لكثير مما قاله العبادي وفي كل منها، ولكني انتظر رده، واطلب منه ذلك كما طلب مني، لكي يأتي ردي القادم عليه وافيا ومفيدا للجميع.
|
|
|
|
|