| مقـالات
عام كامل ، يُشرِّق فيه المسلمون ويغرِّبون، يجتمعون ويفترقون، يغوصون في دورب الحياة المعاصرة المتعددة، ويسيحون في مسالكها المتفرّقة، يرفعون شعارات متعدِّدة، ويقصدون لقاءات مختلفة في جوانب متباينة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية .... إلخ ، عام كامل، يولد فيه أناس، ويموت آخرون، يتقدم فيه قوم وقوم يتأخرون، عمل دائب في هذه الحياة، ولُهاثُ لا ينقطع في هذا العصر، لُهاثُ لا مفرَّ منه يفرضه واقع المدنيَّة المعاصرة المنطلقة بلا هوادة في ترسيخ مادية الإنسان على حساب روحه وعقله، رَكْضُ دائب في مواجهة مفاجآت هذا العصر الصاخب، وكل ذلك يعيشه المسلمون على مدى عامٍ كامل، حتى يُخَيَّل إلى المتابع أن الأمة المسلمة قد نسيت نفسها وذابت في الأمم الغالبة كما يذوب الملح في الماء.
كل ذلك يحدث على مرأى منا ومسمع، حتى إننا نشعر أحياناً بما يشبه اليأس من اجتماع شمل المسلمين، وأنَّى لهم ذلك، وعدوُّهم يعمل على تفريقهم، وشقِّ صفوفهم بكل ما أُوتي من الوسائل .. ؟؟.
وعند نهاية كل عام يُطلُّ علينا الموسم العظيم، الاجتماع المليوني الكبير «الحج»، يطلُّ علينا كما تطل الشمس على ساهرٍ حزينٍ أصابه الأرق، فطال ليله، وتراخى عزمه وأصابه الوَهن حتى ظنَّ أن الليل لا آخر له وتساءل في حُرقة وأسىً «أما لهذا الليل من آخر» .. ؟.
نعم .. كما تطل الشمس المشرقة على هذا الساهر الحزين، يطلُّ علينا الموسم الأكبر «الزِّحام المبارك»، فيُشرق الأمل في نفوس المسلمين من جديد، ويشعرون أن شملهم ما يزال مجتمعاً برغم الشتات البغيض، ويرون هذه الجموع التي تقصد البيت الحرام، والمشاعر الطاهرة من كل «فجٍّ عميق»، يتدفعون كما يتدفق النهر المبارك إلى تلك البقاع الطاهرة، ويجتمعون بألوانهم وأجناسهم، وألسنتهم المختلفة، ولهم هَدَفٌ واحد، ولباس واحد، ودعاء واحد، وحركة واحدة منسجمة منظَّمة تنظيماً إلهياً فريداً.
«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
عبارة واحدة تردِّدها الألسنة المتباينة في لغاتهم ولهجاتهم بطريقة لا تحدث إلاّ في هذا الموسم المبارك، وفي هذه البقاع الطاهرة، وفي هذا البلد الحرام.
ما أروعه من «زحامٍ مبارك» مئات الآلاف تزدحم على المورد العذب في أطهر بقاع الدنيا، وأوسطها موقعاً، وأرفعها مكاناً، تزدحم وتلتحم، وتتشابك ويحدث الضَّنْكُ العظيم، ولكنَّ رعاية الإله الكريم تحيط هذه الجموع المتدفقة بالتيسير والتسهيل، وهنا تحدث إحدى صور العناية الإلهية كلَّ عام.
إنها مسيرة مليونيةُ لا مثيل لها، تسير في بقعة محدَّدة «ضيّقة» وفي أوقات محدَّدة قصيرة، وبضوابط شرعية منزَّلة من خالق الكون لا يصح تجاوزُها، ومع ذلك فإنَّ هذه المسيرة المليونية تنطلق في أداء نُسُكها، بصورة منظَّمة مهما كانت عوامل التزاحم والاضطراب وتؤدي فريضة الحجِّ تامَّةً في هذا المكان الضيق، والزَّمن القصير، ووفق تلك التعليمات الشرعية المحدَّدة.
هذا «الزِّحام المبارك» ليس أمراً سَهْلاً لمن يتأمَّل واقعه، وليست خدمة هذه الملايين البشرية وتنظيمها، وتسهيل أمورها، أمراً هيَّناً لمن يفكِّر فيه بعقل حصيف.
إننا نسمع في العالم، وفي بعض الدول الكبرى المتطوِّرة في أنظمتها ووسائلها عن شهورٍ تُقضى في الترتيب لمسيرة قد لا تصل إلى المليون، بل إنَّ تنظيم اجتماع مائة ألف إنسان في مكن واحد يعد أمراً عظيماً، ومسؤولية جسيمة، فما بالك باجتماعٍ مليونيّ يتم بالصورة التي أشرنا إليها.
إنَّ المملكة العربية السعودية تتحرَّك بكامل مسؤوليها وإداراتها ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية لخدمة هذا «الزِّحام المبارك» كلَّ عام، ولا تتوقف الدراسات طيلة شهور السنة حول تطوير هذه الخدمات، لتكون أفضل وأكمل، ومع ذلك فإنَّ العمل يظلَّ كبيراً، والمسؤولية تظل ضخمة.
إنّ «هذا الزِّحام المبارك» بصورته التي نراها كل عام يحتاج إلى جهود مضاعفة، ودراسات مستمرة للتحسين والتطوير، وهذا بلا شك ما تقوم به حكومة المملكة العربية السعودية خير قيام.
إنَّ رعايةَ الله هي التي تشمل هذا الموسم العظيم بالتوفيق والتيسير، أو لم يأمر المولى عزَّ وجل نبيَّه إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحجِّ مؤكداً له أن نداءه سيصل إلى كل مخلوق على ظهر البسيطة وأنهم سيأتون من كل فجِّ عميق .. ؟؟.
إذن، فهناك رعاية من الله تعالى لهذا «الزِّحام المبارك»، وهي التي تعين هذه البلاد الطاهرة على القيام بواجبها الكبير في خدمة الحجيج، نعم ... إنه لا حول للبشر ولا قوة إلاَّ برب العالمين.
* * *
الدور الإعلامي :
موسم الحج موسمٌ أكبر، اجتماع مليونيّ فريد، فيه من الجوانب الروحية، والاجتماعية، والثقافية، وفيه من الخدمات الأمنية والغذائية والصحية، وغيرها من الخدمات ما يحتاج إلى إبراز بأسلوب إعلامي متميِّز، يبتعد عن الطَّرْح الجامد، ويتغلغل إلى أعماق مناسك الحج ليبرزها للناس مثالاً حياً للدعوة الإسلامية الكبرى القائمة على التوحيد الخالص لله عز وجلّ، فأين الإعلام الإسلامي من ذلك .. ؟؟.
هنالك عرض لما يجري في الحج، وبرامج متعدّدة تُعرض إِذاعياً وتلفازياً، ومتابعة صحفية واضحة، ولكن «إِعلام الحجّ» بحاجة إلى تطوير أكبر في أساليب الطَّرح لنقل الصورة بكامل جوانبها الرُّوحية والمادية، ليكون الإعلام الأوَّل في العالم أجمع.
ألا يستحقُّ ذلك تكوين لجنة إعلامية خاصة بموسم الحج يمكن أن تسمى «اللجنة الإعلامية للحجّ» تُوكل إليها مهمة وضع خطّة إعلامية متكاملة خاصة بهذا الموسم العظيم لتبليغ رسالته الكبيرة إلى الناس أجمعين .. ؟؟.
* * *
دور الدول الإسلامية:
أين دور الدول الإسلامية في توعية الحجّاج في بلادهم قبل موسم الحجّ؟ سؤال يُطرَح كلَّ عام، ولكنَّ هذا الأمر ما يزال ضعيفاً إن لم يكن معدوماً.
إن مسؤولية الدول الإسلامية جميعاً مسؤولية كبيرة في هذا الجانب، ولابد من وضع برامج للتوعية الدينية، والصحية والغذائية، والتثقيف الروحي للحجاج، لأن ذلك يقرِّب الحاجَّ من الأداء الصحيح لمناسك حجِّه من جانب، ويُساعد المملكة العربية السعودية في توصيل خدماتها بصورة أفضل من جانبٍ آخر.
ولو أخذنا مثلاً واحداً وهو «الافتراش»، افتراش الأماكن العامة والشوارع والطرقات من قبل الحجاج لكان كافياً للتدليل على أهميَّة التوعية السابقة للحاج في بلاده قبل أن ينطلق إلى المشاعر، وقس على ذلك عشرات النماذج من الممارسات الخاطئة لكثير من الحجاج، سببُها عدم وعيهم بالأساليب الصحيحة في التعامل مع «زحمة» موسم الحج.
ألا يمكن لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو لرابطة العالم الإسلامي أن تقوم واحدة منهما، أو كلاهما بهذا الدور التوعوي المهم للحجَّاج في بلادهم .. ؟
* * *
من الماضي إلى المستقبل :
الحياة تمضي، والأيام ترحل، والإنسان يمر بمراحل عمره ثم يودِّع الحياة الدنيا إلى الآخرة، والتاريخ سجلٌّ حافل ينقل إلى الأجيال اللاَّحقة سيرة الأجيال السابقة، يروي لمن يأتي أخبار مَنْ يمضي، ويقدِّم بين يدي الإنسان تجارب الحياة التي مضت بما فيها من خير وشر، وإقبالٍ وإدبار، ونصر وهزيمة ... والإنسان الذي يطَّلع على ما ينقله إليه التاريخ هو المسؤول عن الاستفادة والعناية بما وصل إليه من تجارب الآخرين، أوالإعراض عنها والإهمال لها، وهو كاسبُ في الأولى خاسر في الثانية.
قافلة التاريخ محمَّلة بنفايس أخبار العالمين فأين عقول المتعظين... ؟.
انظر إلى تلك الناقة الصَّهْباء تقطع الفيافي والقفار في طريقها إلى البقاع الطاهرة، ثم تأمل وجه راكبها المشرق ينظر إلى الناس من حوله بعين الشفقة والرحمة، ويُرشدهم ويفتيهم ويحتمل أذاهم، تأمل ذلك الموكب الجميل الذي صوَّره قدامة العامريُّ بقوله :
«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر على ناقة له صهباء، لاضَرَب، ولاطَرَد، ولا إليك إليك» ثم اجعله لوحةً نادرةً معلَّقة على جوار ذاكرتك تنظر إليها كلَّما انحرفت نفسك عن مسلك الصالحين.
وانظر إلى التاريخ الأبعد، الموغل في أودية الزَّمن البعيد لترى ذلك الرَّجُلَ الآدمَ الطُّوال هابطاً من ثنيَّة وادي الأزرق بين المدينة ومكة، وله جُؤارٌ إلى الله بالتلبية، ثم انطر إلى ثنيَّة هرشى لترى تلك الناقة الحمراء الجعدة، تحمل رجلاً عليه جُبَّة صوف، خُطامُ ناقته خُلْبة أي من اللِّيف وهو يرفع صوته بالتلبية، وإذا أردت أن تعرف هذين الرجلين الكريمين فارجع إلى صحيح مسلم ليخبرك من خلاله الرسول عليه الصلاة والسلام أنهما موسى بن عمران ويونس بن متى عليهما السلام أما إذا أردت أن تستشرف المستقبل، بعد نظرتك إلى الماضي فمُدَّ بصرك على جسر بصيرتك وانظر إلى هناك إلى «فَجِّ الرَّوحاء» وهو مكان بين مكة والمدينة، وتأمَّل ذلك القادم مُهِلاًّ من هذا المكان بالحج أو بالعمرة أو بهما معاً، إلى بيت الله الحرام وإذا أردت معرفة هذا الرجل الكريم المُهلِّ بالحج والعمرة في الأزمان القادمة فما عليك إلاَّ أن تفتح «صحيح مسلم»، لتجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عنه أصحابه وبيَّن لهم أنه نبيُّ الله المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
أرأيت كيف ينقلك دينك الحنيف الصحيح بما يحمله إليك من الحديث الصحيح من ذلك الماضي الموغل في القدم إلى ذلك المستقبل الموغل في الجدَّة؟ ألست بذلك صاحب أعظم ثروة في الوجود .. ؟؟!
إرث إبراهيم عليه السلام :
روى ابن ماجةَ في سننه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بأحد الصحابة إلى جموع الحجيج يوم عرفة يقول لهم:
«كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث إبراهيم».
فما أعظمه من إرث، وما أسعدنا به.
|
|
|
|
|