| محليــات
إن الآباء الذين يحسبون أن التربية هي ذلك الألم الذي تولِّده العصا، أو تلك الدماء التي تريقها القسوة، أو ما يخلّفه الغضب من الرَّوع في النفوس البريئة، أو تلك الانكسارة التي يولِّدها الشَّرر المتطاير من عيونهم، أو البلادة التي ينتجها التقريع المتلاحق، أو الانطواء الذي يسببه الجفاء والرعب.
هؤلاء الآباء لا يختلفون عن أولئك «المجرمين» الذين يقتلون، ويعيثون في الأرض فساداً...
ذلك لأنهم يقتلون في أبنائهم الفرحة، والثقة، والطموح، والحوافز، والدافعية، والقدرة على التعبير، بل ممارسة الحياة في شكل طبيعي دون رواسب، ودون عقد، دون خوف، ودون وجل.
فبقدر ما يكون «محضن» الوالدين هو البوتقة التي تمنح الأمان والاستقرار وتبني الشخصية بقدر ما تكون «الفرن» الذي يحرق كلَّ بذرة لأي شعور بالأمان، أو جذور للثقة...
والأبناء الذين يفقدون في محاضنهم الأساس الأمان، والثقة... أولئك الذين يخلعون ثيابم عنهم بمجرد أن يبعدوا عن أي «بيئة» تمت أو ترتبط ببيئة هذه المحاضن، هروباً من تبعاتها، وبعداً عن آثارها، وتخلصاً منها...
فأي جريمة أكبر من هذه؟...
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بحقوق الأبناء ما أوصى بحقوق الآباء؟...
بل أسند إليهم أمر تشكيل هذا «الابن» وكأنما هو الصفحة البيضاء التي يرسمها الآباء ويلوّنون خطوطها: «فأبواه من يهودانه أو ينصرانه»؟
و... «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته»...
وما هي الرعاية؟... إن لم تكن تعهداً بالوعي، وتناولاً بالأداء...
ما هي الرعاية إن لم تكن موقفاً واضحاً نحو كيان طري كالعجين، لا يأخذ شكله إلا بتعهد حذر، واع، أمين، يقظ، رحيم، صبور،....
ما هي الرعاية إن لم تكن عطاءً لا يبعد قيد أنملة عن المَثَلِ، القُدْوةِ، الذي يؤكد فعلُه قولَه، ولا يختلف قولُه عن فعلِهِ؟... فمن يرضى بأن يعيش في «اضطهاد» كي يضطهد فلذة كبده؟... واضطهاد الوالدين ليس فقط عند المواجهة لهم بل أيضاً بالبعد عنهم والإهمال لهم، والتخلي عنهم، فلا يجد الأبناء المحضن الذي يلجأون إليه ويلجونه فيتشتتون، ويضيعون في مهب أية ريح تعصف بهم، أو تأخذهم في دواماتها...!
واضطهاد الآباء للأبناء ظلم، ونادراً ما ينجو منه الأبناء فيبنون أنفسهم، أو ُيقيِّضُ لهم الله تعالى من يقيل عثراتهم، فينجحون في حياتهم.. أما الأكثرية فإنهم لايفعلون...
إن التربية مسؤولية، وأمانة وقوامة، ورعاية، وهي مناطة في أعناق الوالدين...
ألا يعلم الآباء أن أبناءهم يسألونهم في عرصات القيامة عن هذه الأمانة، والمسؤولية، والقوامة، والرعاية؟... وأنهم إما متوجون وإما محاسبون؟...
كيف سيلاقون ربَّهم بهذه الأمانة؟ وماذا سيقولون عن تفريطهم أو تقصيرهم أو إهمالهم؟...
ماذا سيقول الآباء لربهم عن أبنائهم؟!... لماذا قسونا، ولماذا ظلمنا، ولماذا أهملنا، ولماذا قصَّرنا، ولماذا جفونا، ولماذا... ولماذا...،
هؤلاء من سيواجهون بالسؤال الأكبر: لماذا خلع أبناؤكم ثيابهم التي ألبستموهم؟... ولماذا زجُّوا بأنفسهم داخل ثياب ليست لهم؟... كيف لم تتأكدوا من سلامة الثياب، ومتانة الغزل، وصحة النسيج؟!!...
ماذا سيكون موقف الآباء الذين يحسبون أن التربية هي القهر، والإيلام، والإهمال، والقسوة، والبعد، والتقصير، وعدم الرعاية، وعدم الحنان، والاتكال على الزمن والصاحب والمواقف كي تعمل عملها في تربية أبنائهم حتى إذا ما فشلوا رموهم بأقذع الصفات، ووسموهم بأقسى النعوت، وأنكروا أن تكون هذه نتائج أفعالهم هم...، وإن نجحوا عزوا أي نجاح للأبناء لهم، وهم لايعلمون أن ذلك توفيقاً من الله تعالى...
ثم...
يسأل سائل الناس لماذا يخلع الإنسان ثوبه؟...
إن الثوب الذي يُصمم، ويحاك، ويختار كل ما فيه من اللون، والنسيج، والتطريز، والمقاس، والصفات على دقة، وانتباه، ورعاية، وولاية، وحدب، وعطاء، ومتابعة، وتعهد... يظل ناصعاً، ثابتاً، متيناً، لا يبلى، ولا يتغير، وبالتالي يصعب استبداله... فهو سمة صاحبه...
أما ما لا يتحقق له من كل ذلك فإنه قابل للاستبدال عند أي ظرف...
فأي الثياب يصنع الآباء لأبنائهم؟!...
يكون نوع حصادهم...
سواء في هذه الدنيا الفانية على عجل...
أو في تلك الباقية إلى الأجل...
|
|
|
|
|