| عزيزتـي الجزيرة
عزيزتي الجزيرة..
تحية طيبة وكل عام والمسلمون جميعا بخير راجيا للحجاج حجا مبرورا وسعيا مشكورا وتجارة لن تبور وان يمن الله سبحانه وتعالى عليهم بالعود الحميد والاجر العديد انه على كل شيء قدير.
وبعد، فاني اقرأ باستمرار ما يخطه يراع محللنا السياسي البارع الاستاذ جاسر عبد العزيز الجاسر في زوايتة «اضواء» وبأسلوبه السهل الممتنع فهو كاتب حاذق متمكن مما يكتب وأحيي فيه متابعته لنضال شعب فلسطين من خلال انتفاضته المباركة وما يتعرض له الشعب الفلسطيني في هذه الايام.
الا انني اريد ان اعقب على زاوية اخرى كتبها الاستاذ جاسر في عدد من جريدتنا «الجزيرة» بعنوان: «اجتثاث الفساد الاداري من الصين الى دبي»
ولن اتكلم عن الفساد فكثيرون يكفونني ذلك، الا ان عبارة اوردها الاستاذ جاسر في تلك الزاوية هي التي علقت بذهني وهي: «واذا كانت الجريمة في السابق تنحصر في عمليات السرقة المحدودة وعمليات القتل البسيطة فان العصر الحديث شهد جرائم عديدة اخذت في التطور.. فظهرت عمليات غسيل الاموال ومافيا الاجرام وغيرها من الجرائم التي لم نكن نسمع بها» الى ان يقول: «وهذا ما فرض على الدول مواجهة تطور الفكر الاجرامي والتصدي للاشرار. ومثلما ابتكر المجرمون وسائل وطرقا لتحقيق مآربهم الفاسدة طورت الحكومات وسائلها وابتكرت طرقا أفلحت الى حد بعيد في محاصرة قوى الشر».
وهذا ما اريد ان اعقب عليه فقد ذكرني هذا بخطبة زياد بن ابيه او زياد بن سمية او زياد بن ابي سفيان بعد ان استلحقه معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه كما يقولون بنسبه وآخاه.
وخطبة زياد هذه تسمى «البتراء» لانه كما قيل لم يبدأها بحمد الله ولا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.. وقالوا:
بل بدأها بقوله: «الحمد لله على إفضاله وإحسانه ونسأله المزيد من نعمه واكرامه. اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا».
وسوف استعرض فيما يأتي الخطبة:
لما قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن ابي سفيان والفسق بالبصرة كثير خطب خطبة بدأها بوصف اهل البصرة بالجهل والضلال والغي الذي شمل السفهاء والحلماء من اهلها حتى كأنهم لم يقرأوا كتاب الله ولم يسمعوا بأجر الطائع وثوابه ووزر العاصي وعقابه، فقد ملأت الدنيا عيونهم وسدت الشهوات مسامعهم واختاروا الفانية على الباقية.
وينعى عليهم عدم الانتصار للضعيف الذي يقهر ويؤخذ ماله وانه لم يكن من القوم نهاة يمنعون الغواة والضلاّل )جمع ضالّ( من سلب الناس اموالهم في الليل والنهار.
ويصف حالهم بإقرار المنكر وترك المعروف.. قال: «قرّبتم القرابة وباعدتم الدين، كل امرىء منكم يذبّ يدافع عن سفيهه».
ثم بيّن سياسته في الرعية.. وهذا الكلام مشهور يُستشهد به: «اني رأيت آخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله: لين في غير ضعف وشدة في غير عنف».
وانتقل الى الترهيب والأخذ بالشبهة قال: «واني اقسم بالله لآخذن الوليّ السيد بالمولى، المولى: العبد يأخذه: يعاقبه، والمقيم بالظاعن الظاعن: المسافر والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: أُنجُ سَعْد فقد هلك سُعَيْد».
قلت: وهذا مخالف لقوله تعالى: «ألا تزر وازرة وزر أخرى».
وانتقل الى تحذيرهم من اشياء:
فقرر منع التجول في الليل قال: «إياي ودَلَجَ الليل» وجعل عقوبة من يتجول في الليل القتل، قال: «فاني لا أُوتى بمدلج الا سفكت دمه». قالوا ان زيادا هو اول من منع التجول في الليل.
ثم حذرهم من دعوى الجاهلية والعصبية القبلية، قال: «واياي ودعوى الجاهلية فاني لا آخذ داعيا بها الا قطعت لسانه».
وهنا يأتي السبب المباشر في هذا الموضوع وهو مقابل ما ذكره الاستاذ جاسر من ان الدول ابتكرت عقوبات لجرائم مبتكرة قال زياد:
«وقد احدثتم أحداثاً لم تكن )من قبل( وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة: فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن احرق قوما احرقناه ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا».
قلت: وهذا من التعزير الذي شُرع للعقوبات التي ليس فيها نص بل تترك لتقدير القاضي.
وبعد ذلك حذّرهم من مخالفة جماعة المسلمين وهدد من يفعل ذلك بالقتل وعفا عن العداوات الشخصية بينه وبين بعض اهل البصرة ودعا المحسن لزيادة الاحسان والمسيء الى الاقلاع عن الاساءة واخيرا ختمها بهدوء:
طلب منهم السمع والطاعة ووعدهم بالعدل والانصاف وانه لن يقصر عن طالب حاجة ولن يمنع عطاء مستحق ولن يترك الجند في بلاد الاعداء ويمنعهم العودة الى اهلهم.
وطلب منهم الدعاء بالصلاح للأئمة فصلاحهم صلاح للرعية.
والنهاية التهديد.. قال:
«ان لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرىء منكم ان يكون من صرعاي».
واذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإن خطبة زياد ذكرتنا بخطبة الحجاج بن يوسف الثقفي بالكوفة في العراق ايضا: قالوا: دخل الحجاج بن يوسف المسجد حتى اذا اجتمع الناس قام فكشف عن وجهه وكان ملثما ثم قال:
انا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى اضع العمامة تعرفوني |
هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي استشهد به الحجاج.
وابن جلا اي ابن من جلا الامور واوضحها ويضع العمامة : يخلعها وليس يلبسها.
ثم بدأها بالتهديد:
اني لأرى رؤوسا قد اينعت وحان قطافها واني لصاحبها واني لانظر الى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى «المقصود كبار السن لن يفلتوا من عقابه» ترقرق : اصلها تترقرق حذفت التاء تخفيفا. ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيَمْ
)زيم اسم ناقته(.
قد لفها الليل بسوّاق حُطمْ
)لف الابل سائق شديد(.
ليس براعي ابل ولا غنمْ
ولا بجزار على ظهر وَضَمْ
الوضم: ما يقطع عليه اللحم».
üüüü
قد شمرت عن ساقها فشدوا.
ومادت الحرب بكم فمدّوا
والقوس فيها وتر عُرُدُّ
)عرد: قوي صلب(.
مثلُ ذراع البَكْر او اشدُّ
البكر: الفتيّ من الابل.
لابد مما ليس منه بدُّ
üüüü
قد لفها الليل بعَصْلَبِيِّ
)العصلبي: الشديد القوي(.
أروع خراج من الدويَّ )الاروع : الكريم، الدوي: الصحراء(.
مهاجر ليس بأعرابي
üüüü
وكل هذا الشعر )الرجز( مدح لنفسه ولقوته ولتخويفه لأهل الكوفة وهو ليس من شعره بل استشهد به فهو لرويشد )أورشيد( بن رميض العنبري.
ثم قال:
اني والله يا أهل العراق، )ثم مجموعة شتائم( والشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، ما يقعقع لي بالشنان، «الشنان القربة يضرب عليها لإخافة الطير او لتسرع الابل في سيرها». ولا يغمز جانبي كتغماز التين )اي لا يُفحص ليُجرَّب مثل من يلمس حبة التين ليرى هل هي ناضجة ام لا( ولقد فُررت عن ذكاء )اي ان ذكاءه مجرب ومعروف(، وجريت من الغاية )أي انه فاز في السباق ولا حاجة لاعادة تجربته والغاية قصبة تنصب في آخر مسافة السباق ليأخذها السابق(. ومن هنا قيل: «حاز فلان قصب السبق».
وقال: ان امير المؤمنين نثر كنانته )الكنانة حافظة )جراب( السهام )تصنع من الجلد(، ثم عجم عيدانها )اي عض السهم بأسنانه ليختبر قوته(، فوجدني امرّها عودا، واصلبها عمودا، )واصعبها مكسرا(، فوجهني اليكم، )فرماكم بي(، فانكم طالما اوضعتم في الفتن )اي خضتم فيها(، واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي بها، اما والله لأَلحُوَنَّكم َلحْوَ العصا، )لحا العصا: قشرها( ولأعصبنكم عصب السلمة )اي يربطها ربطا والسلم شجر كثير الشوك يستفاد من قشره في الدبغ( ولاضربنكم ضرب غرائب الابل )وذلك ان الابل اذا وردت الماء لتشرب فدخلت عليها ناقة غريبة، ضربتها وطردتها حتى تخرج عنها( فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون.
ثم يبين لهم انه جاد في كل ما قال ، قال:
اني والله لا اعد الا وفيت، ولا اهُمُّ الا مضيت )اي اذا هم بأمر مضى فيه ولم يتراجع ( ولا اخلُقُ الا فريت )اي انه يقدّر ويقيس الجلد قبل ان يقطع ثم يقطع ولا يتراجع(.
ثم التحذير والتهديد في النهاية، والتحذير من الشائعات والاشاعات والخوض في قيل وقال. قال:
«فإياي وهذه الجماعات: )اياي وكذا: اسلوب تحذير اي احذركم نفسي واجتنبوا كذا وكذا، وهذه الجماعات تحذير من الحزبية والطائفية التي كانت مستشرية( وقال وقيل وما تقولون، وفيم انتم وذاك اما والله لتستقيمُنَّ على طريق الحق او لأَدعَن لكل رجل منكم شغلا في جسده» )يشتغل بعلاج جسده او التألم مما ناله من العقاب والعذاب(.
ويكفي هذا،،
شاكراً لجريدة الجزيرة «المعيّدة» وصفحة عزيزتي الجزيرة «المجددة» والقراء الكرام والسلام ختام.
نزار رفيق بشير
الرياض
|
|
|
|
|