| مقـالات
من التأسيسات المهمة التي نحتاجها اليوم اعادة النظر في مفهوم الدور الذي تقوم به الصحافة في بلادنا السعودية والعربية والنامية.. وهذا الموضوع يشغل الذهنيات الاكاديمية في مختلف كليات واقسام الاعلام، كما يشغل منسوبي المؤسسات الاعلامية في شتى مجالاتها ومستوياتها ومناطقها..ماذا ينبغي ان تقوم به الصحافة ونفس الشيء الاعلام في المجتمع؟ وهل ما تؤديه المؤسسات الاعلامية هو انعكاس لما يجري في المجتمع من ايجابيات وسلبيات، من مشاكل وهموم، من تطور ونكوص.. ام ان ما تقوم به وسائل الاعلام ليس الا الوجه الجميل الذي يتمناه المجتمع في نفسه، والصفحات البيضاء التي لا يعكرها صفو الزلل والعبوس والنتوءات الذميمة.. اي ان الاعلام لا يقدم للناس والمتلقين كل الاشياء بل بعض الاشياء التي تدور في المجتمع.. فالاعلام باختصار لما ان يكون مرآة للمجتمع، او ان يكون ادوات تجميل للوجه الذي نريد ان يظهر به مجتمعنا.
ولربما من المهم هنا ان اشير الى ادبيات ذات علاقة بجوهر هذا الموضوع وهو الدور الذي تقوم به الصحافة في المجتمعات الغربية عبر فترات زمنية مختلفة.. ولكن في البداية اود تسجيل اعتذاري لكل الصحافيين والاعلاميين العرب على اطلاق مسمى كلب )المراقبة( او كلب )الحراسة( عليهم.. ولست الشخص الذي وضع هذا الاطلاق، بل ان هذه الادبيات تأسست منذ القرن الثامن عشر، واشارت الى الدور الذي تقوم به الصحافة في المجتمع على انه شبيه بدور كلب المراقبة watch dog الذي يعمل على مراقبة المحيط الذي يعيش فيه لينبه من حوله الى المخاطر والدخلاء الى شرعية الوضع القائم..وكان هذا الاطلاق تحديدا على الدور الذي كانت تلعبه الصحافة الانجليزية والفرنسية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. وكانت الصحافة في ذلك العهد التنويري تقوم بمراقبة الحكومة والبرلمان والكنيسة والنبلاء ونشر كل ما يعكر الصفو العام او يخل بالنظام الاجتماعي القائم.. ومع انضمام الاذاعة والتلفزيون خلال القرن العشرين اصبحت تشكل كلاب مراقبة تتابع كل صغيرة وكبيرة في المجتمع لتلفت انتباه المؤسسات والناس الى مشاكل وهموم واوضاع تحتاج الى حلول وترتيبات وتنظيم وتصحيح مسار وتعديل وضع..الخ.. واذا تمت هذه الامور تكون الصحافة ووسائل الاعلام لعبت دورها على اكمل وجه وادت رسالتها على افضل طريقة.
ولكن مع مرور الوقت، وتضخم الهياكل الاعلامية وتداخلها ضمن مصالح كبرى في المجتمعات الرأسمالية اخذ التفكير يتغير من مفهوم «المراقبة» الى مفهوم «الحراسة» وهذا ما اشار اليه البروفيسور الامريكي فيليب تتشنر tichenor حيث ذكر ان القول بأن الصحافة والاعلام تقوم بدور كلب «المراقبة» هو غير دقيق ولا يمثل الحقيقة كاملة.. والاصح هو اطلاق مسمى كلب الحراسة وهي الصفة الجديدة لمكانة ودور الصحافة والاعلام في المجتمعات الغربية.. فالمعروف ان المؤسسات الاعلامية هي جزء لا يتجزأ من الشركات الكبرى في العالم وضمن خطوط الانتاج المختلفة لهذه الشركات يأتي الخط الاعلامي، الذي يمثل مصلحة مهمة للشركة من بين مصالح عديدة.. وبناء عليه ستعمل وسائل الاعلام على حراسة مصالح هذه الشركة، وغيرها من الشركات المتضامنة.. وفوق كل شيء مصالح النظام الاقتصادي للطبقة الرأسمالية.. وهكذا فيرى تتشنر بأن الدور الذي تقوم به الصحافة هو دور كلب الحراسة guard dog وليس دور كلب المراقبة كما يحلو ترديده من قبل الممارسين الاعلاميين وبعض الاكاديميين. ونعود الى الثنائية المطروحة في مقدمة هذا المقال.. هل وسائل الاعلام تقوم بدور المرآة والتي يمكن ان يمثلها في ادبيات الاعلام مفهوم كلب المراقبة، ام ان وسائل الاعلام تؤدي دور «الادوات التجميلية» لوجه المجتمع، وهو ما تجسده ادبيات الاعلام الاكاديمي بكلب الحراسة.. الذي يعمل على حراسة الوضع القائم وتزيينه في افضل صورة.. اما بخصوص ما يجسد هذه المفاهيم من مضامين وبرامج وانتاجات اعلامية في مقروئنا ومسموعنا ومشاهدنا العربي فهي متنوعة وكثيرة، فهناك من مؤسساتنا الاعلامية من نعتبرها في كليتها ادوات تجميلية تدب الى كل ناحية ومرفق في المجتمع فتشرع في تزيين تلك المواقع والوجوه والمرافق بالوان وادوات زينة صارخة جدا، فتظهر الوجوه بغير وجوهها الحقيقية، والمرافق بغير منجزاتها الواقعية.. وهكذا فهؤلاء الاشخاص وتلك المؤسسات لا تقدم جديدا سوى صور خيالية غير واقعية عن المجتمع.. وحتى المعنيين بتلك الامور والمسائل لا يستفيدون قليلا او كثيرا من تلك المشاهد والمسامع التي تصدمهم بغير واقعيتها.. وهناك مؤسسات اخرى لا تحمل الا القليل من ادوات التجميل ولكن الكثير من ادوات التشريح فهي تقوم بعمليات تجميل لكن عمليات جراحية ومؤلمة.. فترشدنا الى موضع المشكلة وتساهم في تشخيص علاجها، ثم تشارك في تشريح الألم وجراحته وتجميله.. وهنا يكون مصدر المشكلة والالم قد تم التغلب عليه، ليس فقط بالتمويه او المداراة عليه، باستئصال المشكلة وتأسيس قاعدة جديدة ووجه آخر ووضعية مستحدثة، تكون جميلة وجاذبة وحقيقية. واذا عدنا الى مفهوم الكلاب، فان هناك مؤسسات اعلامية تعمل على انها كلاب مراقبة بمفهوم المراقبة الشاملة في كل الانحاء داخل البيت وخارجه، تراقب كبير الاشياء وصغيرها، اعالي المخاطر واسافلها.. ولكن هناك مؤسسات اخرى تقوم بدور الحراسة الخارجية فقط.. فيهمها ما يأتي من الخارج الى محيط المنزل، وتحرس وتدافع عن كل ما يعكر صفو ونقاء البيئة والمكان.. ولا تكترث الى ما يدور في الداخل من اضطرابات واهتزازات ومشاكل.. فعيونها على حراسة المنزل وجعلة آمنا في المظهر العام، نظيفا كما يراه الاخرون دائما، وجميلا او متجملا بقوة هذه الحراسة.. وفي عصر العولمة يبدو ان كلاب الحراسة هذه تجوب الاقطار والامصار والمجتمعات دون استثناء.فنماذجها في كل مكان.. في الصين ونيويورك ولندن وباريس والقاهرة وبيروت والخليج وامريكا اللاتينية.. فظاهرة الكلاب اصبحت جزءا من عولمة الاعلام، وظاهرة الجمال وادوات التجميل باتت جزءا من مكونات العصر الحديث للاعلام والوجه الجديد للاتصال الدولي.
|
|
|
|
|