| الثقافية
الاديبة عفيفة كرم، رائدة من رائدات الصحافة، بل هي في قمة الريادة، هذه المرأة الأديبة لم تتوقف يوما واحدا عن مخاطبة المرأة العربية، والسعي إلى تقدمها، وقد ترعرعت هذه المرأة في رحاب الطبيعة البكر، وفي مدرسة القرية الصغيرة تعلمت، إلا أنها فاقت بنات جنسها في أن زادها كان عظيماً، وطموحها كان عالياً، ودأبها وجهدها كان مستمراً، وموهبتها كانت فذة متميزة.
رحلت هذه المرأة الأديبة، والصحفية اللامعة إلى ديار الغربة، وهي تحمل في حناياها شذى الأزاهير البرية، وتحمل بين جوانحها حنيناً لا يهدأ ولا يكل ولا يمل إلى قريتها الصغيرة التي خلفتها في وطنها، وقد أعطت هذه المرأة المكافحة والأديبة المناضلة وطنها وقريتها الصغيرة الكثير الكثير، إلا أن الأيام كانت قاسية عاتية جبارة، فلم تمنحها فرصة ، ولو واحدة ، لتعود إلى وطنها، فحملت حزنها وحنينها وشوقها معها، هذه المرأة التي أعطت أيامها الكثير الكثير من قلبها وعقلها وموهبتها، ولم تبادلها الأيام عطاءً بعطاء بل كانت فظة غليظة خؤوناً تجاه هذه المرأة الحانية، هذه المرأة هي عفيفة كرم ابنة عمشيت في بلاد جبيل، حيث فتحت عينيها على النور في شهر تموز من سنة 1883، وكان والدها دكتوراً وهو يوسف مخائيل كرم، أما والدتها فهي فرومنيا حبيب أسطفان.
وقد أدخلت هذه الأديبة وهي طفلة مدرسة ابتدائية، ثم انتقلت الى مدرسة أخرى، وحينما وصلت إلى سن الزواج بعد أن تخطت مرحلة اليفاعة إلى الشباب البكر، تزوجت من رجل يدعى حنا صالح كرم سنة 1896، وكان هذا الرجل مولعاً بارتياد المجهول، كما أن فيه رغبة جياشة إلى الغنى والجاه، فسافر برفقة زوجته عفيفة إلى الولايات الأمريكية المتحدة ، حيث ا استقر به المقام في )لويز يانا( ، ومن هذه الولاية الأمريكية الواقعة على خليج المكسيك انكبت عفيفة على المطالعة والقراءة العميقة والتزود بمختلف انواع المعرفة والعلوم، فكانت تلتهم بفهم وتقرأ بشغف كل ما يصلها من كتب ومجلات ثقافية من وطنها الأصلي، إلى أن أغنت ثقافتها بما هو زاد الباحثين والكتّاب في ذلك الوقت، وعوضت نفسها، وأغنت قريحتها، بما كانت قد خسرته في المعاهد العلمية التي حال زواجها المبكر عن دخولها فيها.
ومن خلال القراءة المكثفة والتزود بالعلوم والمعارف بدأ قلمها يكتب، وما لبثت قليلاً حتى اشتد عوده، واخذت تكتب في الصحف وتطالع القراء في الصحافة المهجرية، غير أن وجودها الحقيقي في دنيا الصحافة، كان يوم عهد إليها صاحب جريدة )الهدى( نعوم مكر زل الإشراف على جريدته في غيابه يوم سافر إلى باريس، وقد كانت عفيفة كرم، الأديبة الأريبة على مستوى هذه المسؤولية الكبيرة، ثم فكرت بعد حقبة من الزمن أن تصدر مجلة خاصة بها، لترتبط باسمها على مر الزمن والتاريخ، وكان ذلك في عام )1911( حيث أصدرت مجلة اسمتها )المرأة السورية( فكان لهذه المجلة صولات وجولات، كما كان لها أطيب الأثر في نفوس القراء، وأعظم وقع في نفوس الأجيال.
وبعد سنتين اثنتين من صدور مجلتها الأولى )المرأة السورية( فكرت عفيفة كرم في إنشاء مجلة شهرية أخرى حيث اسمتها )العام الجديد(، وكان الهدف من هذه المجلة الجديدة استيعاب المقالات والدراسات التي لا تستوعبها مجلة أسبوعية نسائية، ثم تابعت هذه الصحفية اللامعة مسيرتها حثيثة الخطى، مشمرة الساق، في سُبل الكتابة، ودروب الكلمة، فانتقلت من كتابة المقالة إلى مجال الفن الروائي، حيث أبدعت في هذا الحقل، وكان أول انتاجها في هذا الحقل الجديد، رواية )غادة عمشيت( وقد كرست هذه الرواية الأولى لذكريات قريتها البعيدة، والتي تركتها حينما تخطت سن اليفاعة إلى سن الزواج، وما زالت حنينة مولعة بها، جياشة إلى المقام فيها، وقد جاءت هذه الرواية كعمل أدبي، تفوح وتعبق منه رائحة عطر فريد متميز، ليحمل ذكريات هذه القرية البعيدة إلى أرجاء العالم، وجوانبه، ثم تابعت الأديبة الروائية الصحفية عفيفة كرم فكانت باقة الورد الروائية، تحمل الزهرات التالية : )بديعة وفؤاد( و )فاطمة البدوية( و)ملكة ليوم( و)ابنة نائب الملك( و)نانسي ستاير( و)محمد علي الكبير( و)كيلو باترا(.وكانت قد كتبت هذه الروايات المتعددة وهي لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها بعد، فانتشرت أعمالها بسرعة حتى وصلت إلى أرجاء وطنها، وعفيفة كرم كانت تحن إلى وطنها الأصلي بشغف وهيمان وعشق قوي، وكان هذا الحب لوطنها هو خير زاد تتزود به في رحلتها الطويلة، وحبها القوي، وحنينها الدائم هو بالأخض لقريتها الصغيرة عمشيت، فكانت تردد دائماً :)عمشيت بلدتي الغالية المحبوبة مني(، ورغم انهماكها في الإنتاج القصصي لم تتوقف يوماً عن مخاطبة المرأة وتوجيهها إلى ما فيه خيرها وتقدمها والنهوض بمعارفها ومداركها، ظهر كل هذا في مقالاتها التي اقترنت بعميق التجربة، والثقافة خاصة في مجلتها الجديدة )العام الجديد( ، ومن أقوالها في إحدى مقالاتها :)أختي المرأة نحن في المهاجر نواجه مدنيتين متناقضتين، إحداهما شرقية بحتة، والأخرى أميركية محضة، ونحن في الاثنتين مقصرات عن بلوغ الدرجة التي نريدها، لأسباب عديدة، اختيارية أو اضطرارية، ومن أهمها ما يلي: أولاً اننا في البلاد الأميركية بعيدات عن الوسط اللبناني ولولا محبة كامنة في الصدور لذلك الوطن المفدى وغيرة من افراد شعبنا الذين سعوا، ولا زالوا يسعون لاحياء اللغة العربية، ثانياً لان مصالحنا، وهي الرابط الثاني الأهم لقلوب الأمة تضطرنا للسير بموجب قوانين واصطلاحات وعادات القوم الذين نحن بينهم، وقد سرنا عليها هذه السنين الطوال، فكادت تكون لنا عادات بل طبيعة ثانية. ثالثاً: لأننا ندافع بكل قوانا لحفظ تقاليدنا، وشتان بين من يكون يجرب السباحة مقاوماً التيار الذي يجرفه ومن يسير معه، تاركاً له السير به للجهة التي يسير هو بها.
رابعاً: لأن القوة التي هي أولادنا تجذبنا جذباً قوياً لا يقاوم، في وسط مدينتنا الماضية، لوسط مدينتهم الحاضرة، ولا شك أن الغلبة تتم علينا بعد مرور هذا الجيل، هذا إذا لم تحدث الأعجوبة التاريخية، ونجد إلى الرجوع للوطن القديم سبيلاً، وهي أن يكون لنا في الوطن القديم مدينة شرقية متجددة مبتكرة، لا غربية مقلدة تضاهي المدينات الغربية تقدماً ورقياً، والأسبقية ستكون لك ولي في وطننا حيث هي لغتك وعاداتك ومجالسك، أما إذا خبأ لنا المستقبل «اندماجاً» قد يكون محتوماً، فالمهاجرة ستكون دائماً السباقة، لما توفر لها من القوى والاستعدادات(.
هذه هي بعض مظاهر الحنين، وعلامات الشغف، وخواطر الذكريات، وبوح الذاكرة في أدب الأديبة اللامعة عفيفة كرم، وهي في هجرة وتوق شديد لوطنها الأصيل، ولقريتها الصغيرة القديمة، وذلك الوطن، وتلك القرية هما وليدا ثقافة متحضرة، وأصالة موروثة، وكانت هذه الأديبة الصحفية تحس في اعمق اعماقها بشفافية الأدب، وبرقة الشعر، وبعذب الالفاظ، وأصيل المعاني، تجاه هذه القرية الصغيرة )عمشيت(، وكانت تشعر في داخلها برغبة قوية في العودة إلى أرض الوطن، وسرعان ما يرافق هذا الإحساس شعور بأنها لن ترى قريتها الريفية الصغيرة، ولن تكحل أهداب عينيها بإثمد نور )عمشيت(، وفعلاً صدق حدسها، وتحققت فراستها، ففي عام 1924 في ولاية )لويز يانا( الأميركية بمدينة شرينبوت ، حلت لحظة الصمت الأبدية، بعاشقة ومحبة القرية الصغيرة البدائية )عمشيت(.وقد عاشت دائماً في هاجس خوف وقلق وارتباك ان يدركها الموت وهي بعيدة عن ربوع بلادها، وفعلاً ادركتها حشرجة الموت، ونزعة الفناء وهي في الثانية والأربعين من سني عمرها الزاهرة بالخير والعطاء والفكر والنضج. ووافاها الأجل المحتوم وقد رسمت في خيالها أبدع وأروع صورة رسمت لقريتها الريفية الحانية )عمشيت(، وقد أودعتها ألف لون ولون. من الألوان التي يعشقها كل مسافر مغترب عاشق ولهان.
مصادر الترجمة :
أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، لعمر رضا كحالة، الطبعة الثالثة ، عام 1397ه، مؤسسة الرسالة.
الأعلام خير الدين الزركلي
نساء من بلادي ناديا الجردي نويهض، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأولى لعام 1986م
|
|
|
|
|