| الاخيــرة
* الذين عاشوا في الولايات المتحدة الأميركية، عاملين أو دارسين، وتابعوا، ويتابعون أحوالها وأحداثها، يعلمون ان هذا البلد يستعصي على التعميم.
وإذا كانت هناك قاعدة تنطبق، او مقولة تذكر في هذا الشأن فهي ان الولايات المتحدة الأميركية هي بلد التمايز، والاختلاف والتنوُّع.
* فإذا رأى البعض ان اميركا هي بلد منحلَّة أخلاقياً، فسيسارع آخرون إلى القول بأن مؤسسة الكنيسة هناك لها نفوذ كبير، وانها من أغنى المؤسسات وأكثرها نشاطا، وان هناك مجموعات كبيرة، محافظة، وملتزمة.
* وإذا رأى البعض بأن أمريكا هي بلد الاستهلاك الوفير، والبذخ المبالغ فيه، والانفاق الطائش السخيف الذي يتجاوز عشرات البلايين، على أطعمة الكلاب والقطط، وطلاء الأظافر، وأحمر الشفاه، و«الهامبورجر»، و«الهوت دوجز»، فسيذكر آخرون ان هذا الاقتصاد الضخم، يضم أكثر المتبرعين للأعمال الخيرية، والمشاريع الثقافية والأبحاث العلمية، والمؤسسات الطبية.
* وإذا ذُكرت أنانية الأميركي، وفرديَّته المغرقة، فسنذكر الأميركي المنهمك في الشأن الاجتماعي المحلي، وفي منظمات العمل المدني، وفي فرق العمل الإنساني في افريقيا، وآسيا أو أوساط الفقراء والمعوزين داخل الولايات المتحدة الأميركية.
* وإذا ذكرنا الانفتاح والتَّسيُّب والعلمانية والليبرالية، فسنذكر أيضاً المعارضة للاجهاض، وامتناع بعض الفئات عن نقل الدم لأسباب دينية، واصرار البعض، بقوَّة، على تلاوة الصلوات في المدارس، وعلى مهاجمة أفلام الخلاعة في هوليود وحركة الشذوذ الجنسي، وفتح الأسواق في أيام الأحد.
* وقائمة هذه المفارقات والتناقضات طويلة ومعروفة ولكن على الرغم من تعدد وجوه أميركا واختلافها فالمهم للعالم غير الأميركي هو الوجه الذي تريد اميركا ان تظهره للعالم، وتُعرف به عند شعوبه، وتُسفر عنه أمام العيون الجاحظة نحو شاشات التلفزيون والسينما وصفحات المجلات الملونة وغير الملونة.
* خلال شهور عديدة، وطويلة كان وجه اميركا المطل على العالم، وجهاً كسيفاً، مخجلاً، وبدا لكثير من شعوب العالم الناظرة، ان هذه القوة العظمى والامبراطورية الكبرى تعيش أيام الامبراطورية الرومانية في عهود انحلالها.
* اختارت الولايات المتحدة الأميركية، في هذا الزمن المضطرب ان تشغل نفسها وتشغل العالم معها، بفضائح سخيفة وتمرغ نفسها في وحل تفاصيل جنسية مثيرة وشائنة، وتصفع بقفازات متسخه مؤسسة الرئاسة، وشخص الرئيس وأعضاء محترمين، وقورين في مجلسي النواب والشيوخ.
* والمتابع، عن كثب، لكل ذلك المشهد المخجل، إذا كانت عنده الخلفية المناسبة عن النظام السياسي الأميركي، والحياة السياسية الأميركية، قد تستغرقه التفاصيل القانونية والاجرائية، وقد يتسلى بالتغطية المثيرة لهذه المسرحية، ويستمتع بالنكات الطريفة، التي تملأ المواقع المتخصصة في الإنترنت، أو برامج الترفيه الليلية، وقد تتيح له معرفته وثقافته بأن يضع الأمور في إطارها الصحيح ويخفضها إلى حجمها الواقعي، ولكن شعوب العالم الثالث الأمِّيَّة، المتواضعة الثقافة، والمعرفة، لا ترى في كل ذلك شيئاً غير الافلاس الاخلاقي للامبراطورية التي تحكم العالم وتعظ شعوبه وتصب على دوله وحكوماته امطار الرضا او ترسل عليهم صواعق الجحيم.
* والأمر هنا يتجاوز الوعظ، واظهار التفوق الاخلاقي، او محاولة القذف بالحجارة فبيوت الآخرين من زجاج، او ان بعضها ذو نوافذ زجاجية قابلة للكسر. ولكن وقد فرضت ظروف اللعبة السياسية الأميركية الداخلية كشف المستور واعلانه بالصوت والصورة، فإن سؤالاً جوهرياً يطرح نفسه حول قدرة وفعالية القوة العظمى، وحكم العالم وإدارة شؤونه وقيادته.
* تسلل الضعف والخلل إلى النظام العالمي، في العالم القديم، قبل ان تنهار روما عسكرياً واقتصادياً، وكان المرض الأساسي الذي بدأ ينخر في عظامها ويوهن سيطرتها على الشعوب، هو انهيارها الأخلاقي، وفراغها المعنوي. كانت روما ما تزال تملك قوة عسكرية هائلة، ولكنها بدأت تفقد روحها وصلابتها المعنوية أمام أمم العالم القديم. والسُّلطة، وطنية أو دولية، لا تحكُم بالخوف والعصا وحدهما، وإذا لم تكن وراء ذلك شرعية اخلاقية كافية ومقنعة فإن الهيمنة المطلوبة للاستقرار والاستمرار تكون مهددة تنتظر الفرصة المناسبة، ولحظة الضعف المواتية لكي تنقض وتنهار.
* ونحن لا نقول ان اميركا بما نعرفه من وجوهها المتعددة، ومفارقاتها ومتناقضاتها، هي دولة منهارة اخلاقياً ولكنها وبلاشك بذلت جهوداً مضنية خلال العامين الماضيين لكي تعطي شعوب العالم هذا الانطباع، فأضعفت، بذلك حاكميتها وشرعيتها ولن تدفع وحدها ثمن هذا الضعف، بل سيدفعه معها، عالم قلق، مضطرب ومُبعثر.
|
|
|
|
|