أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 10th March,2001 العدد:10390الطبعةالاولـي السبت 15 ,ذو الحجة 1421

مقـالات

رحلة الضياء
منى عبدالله الذكير
كان الحجيج وكانت الرحمة من لدن الرحمن الرحيم بعباده المتعبين الراجين عطفه وغفرانه.. تركوا بيوتهم وأحبتهم.. ركبوا المجهول ساروا يحدوهم الأمل برضوان من الله رب العالمين.. يستغفرون، تتساقط دموع الندم والسماحة والحنان.. نحو السماء توجهت كل المآقي.. وتصاعدت الصلوات من الحناجر تتضرع، ترجو تستغفر.. وبحنجرة واحدة تنادي: يا الله .. تتوجه عيونهم نحو الكعبة ونور شفاف مضيء يلفهم نحو سمق من نور. تتطهر النفوس.. تنجو القلوب وترتقي عن كل ما هو أرضي وثقيل.. تترجل الأقدام .. نحو عرفات الجبل، الربوة، الصعود الروحي نحو المنتهى .. يتخذون لهم مرتقى نحو الأعلى والأكثر رحابة.. يغمضون العيون.. يتنفسون بهدوء.. يحاولون اكتشاف نقاط التماس داخلية.. تموج بين الخاطر والوجدان.. يعبُّون هواء الروابي الطاهرة التي ملأت أعماق سيد البشرية من قبل.. تنطلق ابتهالات.. يعيشون التجربة الكبرى.. ويعبرون بوابة السلام الروحي.. تنطلق الأرواح الى سماوات المغفرة وكل حاج ينجو بروحه.. ينفرد بذاته.. إنه المسؤول عن كل أعماله.. إنه الموقف.
فوق هضبة منى .. المباركة .. يفتح الحاج العيون على اتساعها .. لكي تدخل تجربة النظر الى العمق.. تتفاعل.. وهنا يتأمل المشهد الذي أمامه ويتحول الى مجرد متفرج خارجي.. تتسرب الرؤية إلى كل خلية فيه .. تتفاعل.. تنصهر الصور والمرئيات.. يتوحد مع روعة النظر.. إنه نظر خالص.. إنه مجرد عينين.. حجارة الجبل تتألق ببهاء.. تربته ناعمة مضيئة لا ترتفع إلا قليلا.. لا تعكر صفاء الجو.. فقط تتوحد مع ذرات الضياء.. وصلادة الصخر. يتحول الى شيء رقراق وشفاف.. لا يهتم الحاج هنا وهو الذي انصهر وتوحد مع نقاء ا لطبيعة بصورتها المذهلة.. يدهشه ما تراه عينيه من مشاهد خارجة عن نطاق داخله.. يذهل لقدرة عينيه على اختراق الرؤية.. هاتان النافذتان.. تعكسان عالماً بكامله.. هنا يكتمل المشهد..
يهتف الحاج بلهفة المشتاق وهو يرفع وجهه نحو السماء. ينادي ربه بحميمية وحنين.. يريد التواصل.. ينحو للانصهار والتحول إلى ذرات روحية مجردة.. إنه ينطلق من عقال الجسد وثقله.. إنه روح ونسيم وضياء.. وحين يبتهل بصوت مسموع يستعيد وجوده.. يستفيق من سبات كان جميلا خفيفا وعذبا.. يقع على قدميه.. ينفصل عن الزمان والمكان.. يتحول كتلة من الأعصاب والإحساس.. انه الآن روح منطلقة من عقال الأرض المادية الصلدة والجافة.. التي تحرق جلده وتظمئ روحه دوماً .. يغوص في لجة ذاته يستمر في دعاء وتضرع.. يعود إلى واقعه بهدوء بعد ان نزع أثقاله.. يسمع صوته وهمسه.. يردد الدعاء.. ينصهر في سخونة إيمانه.. عبقرية أثيرية تجلل وجوده كله.. يتحول إلى مستمع وحيد وكأن ليس هناك حوله .. مئات الألوف من البشر يكبرون ويهللون.. حبل من نور يتصل به.. يشده لينطلق في رحلة روحية الى منبع النور.. إلى الله . العبد وربه فقط.. إنها ساعة المنتهى.
فوق جبل.. منى .. الرائع. يتذكر الإنسان أنه ليس موضع تجربة. أنه ليس القطب السلبي المتلقي. وليس متجمدا في مكانه وأن ذلك لا يعني أنه مجرد متفرج خارجي.. أو مستمع صامت يؤدي الحج ضمن مسيرة الحج الكبرى التي فرضت عليه.. بل يتذكر ويوقن.. أنه يمثل نفسه هو فقط.. هو من يحس ويفعل ويتفاعل.. ينظر إلى السماء من قمة الجبل.. المبارك.. إلى الله حيث صفاء الكون ضمن فضاء رحب.
حيث يعود الإنسان كما ولدته أمه إن شاء الله نقيّاً طفلاً جميلاً.. ومحباً لله ومؤمناً به .
إنها غاية المنتهى..

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved