| الاخيــرة
عندما ذهبت الروائية المصرية أهداف سويف بتكليف من مطبوعة غربية، أظنها الجاردين إلى منطقة الحكم الذاتي بفلسطين ابان غليان انتفاضة القدس في رمضان الماضي.
كان على تلك المرأة التي تتكلم الإنجليزية بطلاقة وتكتب بها رواياتها، ان تناضل بأظافرها وأسنانها لئلا تخلع عينيها وتخلي مكانها لعين الكاميرا. كان عليها كإنسانة مصرية عربية يجري نشيد بلاد العرب أوطاني في دورتها الدموية منذ ان كانت طفلة بأرض مصر ان تتدبر أمرها في حل كل التناقضات الحادة والجارحة بين تلك الهوية التي تجعل ماء النيل يندلع من مسام بشرتها كلما شعرت بالغربة وبين هويتها كمواطنة إنجليزية تقوم بمهمة صحيفة لصحيفة غربية عن حمى الانتفاضة لتنقل إلى القارئ الغربي أقل قدر من فيروسات تلك الحمى وارتعاشاتها في عظام الجمجمة. ولذلك كان من الظلم لأهداف نشر روبرتاجها مترجما في صحيفة عربية. فبينما كان الروبرتاج بالصحيفة الأجنبية طازجا ويطرح مواجهة لم يتعود عليها القارئ الغربي، جاء ظهوره في مطبوعة عربية أقل ربما من توقعات القارئ العربي في يوميات امرأة اجترحت اختراق حواجز الموت المضروبة على انتفاضة القدس المباركة.
هذا بينما حين حطت عين صحفي بريطاني الأصل والهوية على تلك الأرض صار المتابع العربي وهكذا فعلت يحاول جاهدا ان يخلع عينه ليرى المشهد بعين الكاميرا فقد كانت عين الآلة الصماء أحد بصرا في تناول تفاصيل المشهد الذي حاول فيه ذلك الصحفي ان يكون محايدا كما قال.
حدث هذا حين تابعت روبرتاجا قدمه سيان لانجان sean langan ، وهو صحفي بريطاني عادي ليس لديه خصائص حزبية خاصة أو تخصص معرفي محدد أو دربة بحثية كما انه ليس لديه أي عداء للشعوب التي لا يعرفها ولذا فقد قرر ان يكتشف ما خلف الأخبار في تلك البؤر الجغرافية الملتهبة من العالم غير الغربي. فاختار ان يتوجه الى خمسة بلدان ممن تحظى بالاهتمام الغربي إما لغرابتها في نظر الغرب بالطبع، وإما لتأثيرها البترولي في مصيره الاقتصادي وإما لعبثها بهيبة الغرب الاستعمارية القديمة وسطوته السياسية الجديدة واما اخيرا لتحديها اليومي بتضحياتها كمثال أطفال فلسطين أو ببؤس وسحق شعبها كمثال العراق، لديموقراطيته وأسطورته عن حقوق الإنسان. طلب الصحفي كما جاء في روبرتاجه اذن الدخول )فيزا( الى هذه الدول الخمس. فوافقت جميعها على طلبه ما عدا دولة واحدة منها رأت ان سد باب الريح الغربية خصوصا في المسائل الصحفية أدعى الى تخفيف الصراع الإعلامي. وكانت تلك الدول التي قبلت استقباله هي، أفغانستان/ إيران/العراق/وغزة من الدولة الفلسطينية المزمعة.
غير ان الصحفي على ما يبدو لم ير ضرورة لزيارة الأرض الفلسطينية التي تستوطنها اسرائيل استيطانا استعماريا من خمسة وخمسين عاما رغم بؤريتها الحربية وذلك ربما لأن تلك الدولة الاستعمارية لا تشكل للغرب عالما مختلفا وملتبسا كالدول الأخرى، فتلك الدولة المغتصبة منذ وعد بلفور ما هي إلا صورة من الغرب على أرض عربية أو واحة الصحراء الديموقراطية كما في أدبياته وخطابه السياسي.
إذن فما ذلك الصحفي كما كتبت صحيفة التايم الى تلك البؤر الساخنة غير مسلح إلا بعقلية متفتحة Open Mind ، وبفضول صحفي وبحس مرح ساخر وبكاميرا حساسة.
ولمزيد من المعلومية فإن هذا الصحفي من الصحفيين البريطانيين الشباب الذين يحاولون ان ينسلخوا عن الجلد الاستعماري ويتخلون عن الشوفانية العنصرية ويجهدون لتقديم انفسهم للمجتمعات على أنهم وجه غربي جديد، ولابد ان هذا الصحفي لم يتوقع ان يظهر اسمه في صحيفة عربية وسعودية بالذات إذ إنهم هم عادة مَنْ يكتبون عن الآخر بصيغة الغائب ان لم يكن بصيغة القطيع. أشعر ان عبارتي الأخير لا تخلو من التحامل فيما أنني أكتب وأحاول ان أبادلهم الحيادية. على أية حال كان هذا الصحفي طوال حلقات روبرتاجه الثلاث التي اطلعت عليها إذ فاتتني الحلقة الخاصة بأفغانستان يحاول ان يكون مرحا أو )يتميلح( كما نقول، ويحاول ان يكون ودودا باستخدامه قليل من الكلمات العربية في تخاطبه مع الناس الذين اجرى لقاءات معهم كأن يقول، السلام عليكم، أنا صحفي إنجليزي، أريد الحقيقة ولكن أين الحقيقة.
أين الحقيقة عن دول إسلامية وعربية تنسجم أو تنقسم في صدامها الحضاري والسياسي مع الغرب فيما تتشظى صور بؤس شعوبها وانكسارها على صفحات صحف الغرب وشاشاته كمرايا صغيرة فيرى الغرب في بؤسها مدى رفاهيته وفي أميتها التقنية مدى تقدمه الصناعي وفي قمعها مدى ديموقراطيته وفي نضالها إرهابا له. فيصبح الآخر النقيض والمهيض والأضعف ضرورة موضوعية للغرب الأقوى والأبهى والأعدل كما يقود ادوارد سعيد.
ولكن حتى مع أولئك الغربيون الذين يقدمون أنفسهم على أنهم حياديون ويحاولون ان يفهموا حضارة الآخر تبقى عين الكاميرا أقل تحيزا.
ففي إيران عبثا يحاول الصحفي ان يفهم ان العداء بين الإسلام والغرب إنما هو عداء الغرب للإسلام في الأصل. كما انه عبثا يحاول ان يستوعب ان نساء يلبسن الحجاب كهوية حضارية وليس كشعار ديني وحسب يعملن ويشاركن في شتى نشاطات المجتمع من النشاط الصحفي الى النشاط السياسي.
في العراق حين يترك الصحفي الخطاب الإعلامي المهيمن ويذهب الى الشارع تكشف عين الكاميرا بشفافية وحياد مشهد أطفال العراق على مدخل مصحات تخلو من التجهيز الطبي والدواء، وهم يموتون باللوكيما وسرطانات أخرى تسببت فيها وتتسبب كميات المواد الكيماوية والنووية التي تلقيها الطائرات البريطانية والأمريكية على وجوههم الصغيرة كلما فتحوا الباب للذهاب الى المدرسة.بينما يبقى صدام حسين آمناً يستمتع بقصوره دون ان يمس بسوء او يناله اذى بعد أن وضع شعبه على نحو ما نراه اليوم من ذل وبؤس وعدم امان.
أما أطفال فلسطين أطفال )القتو( كما يسميهم الصحفي الإنجليزي )متعاطفا( فتظهرهم الكاميرا يلعبون بالحجارة في أزقة تمتد فيها حبال الغسيل من بيوت ليس فيها مكان لنشر غسيل لاكتظاظ كل حجرة من حجراتها الضيقة بأكثر من عائلة.
بينما تظهره الكاميرا في غرفته في أحد فنادق غزة الرثة حيث لم يسمح له )الإسرائيليون( ولو بمجرد دخول أحد منتجعات المستوطنات الفارهة التي تسور منطقة الحكم الذاتي. فنراه يسأل وقد نسي ما قاله له الشيخ ياسين في لقائه معه عن ان حرب الفلسطينيين ضد العدو الاسرائيلي هي حرب دفاع عن النفس لأن الصهيونية هي التي بدأت بالاعتداء على شعب أعزل، يسأل لماذا قبلت رأس الشيخ عند وداعه ذلك الرأس الذي خطط لقتل المدنيين )الاسرائيليين( ومرة أخرى ينسى ان يسأل نفسه فيما عين الكاميرا تنقل حالة الحرب والحصار التي يعيشها الفلسطينيون هل حقا يمكن ان يكون هناك )مدنيون إسرائيليون( على أرض مسروقة.
ومع ذلك فإننا لا نملك إلا أن نتلصص عبر ما يمكن ان تسربه عين الكاميرا، على ما يجري على الأرض العربية فيما تقدمه مثل هذه اللقاءات والاجتهادات الصحفية، فهي وان لم تكن محايدة فإنها لا يمكن ان تقدم اكثر من ذلك على ما يبدو مهما ادعت من حياد في ظل اختلال ميزان القوى بين الغرب وبين )الآخر(.
فهل نلومهم أم نلوم أنفسنا؟!
|
|
|
|
|