| مقـالات
في مقال سابق تمت مناقشة عدد من التصورات التي يمكن ان تسهم في تطوير التعليم العالي فيما يتعلق بالسياسات الإدارية والهياكل التنظيمية وأهداف التعليم العالي إضافة إلي ما يتعلق بتطوير النظم التأهيلية والتدريبية. في هذا المقال نكمل مناقشة عدد من المدخلات الأخرى في نظام التعليم العالي وسبل تطويرها.
4 تطوير الموارد والإمكانات:
ان موارد الجامعة قضية حيوية متطورة بطبيعتها ويجب ان تكون كذلك، من هنا فإن أهم نقطة في تطوير الموارد والإمكانات من وجهة نظري هي اعطاء الصلاحيات للجامعات واطلاق يدها في هذا الأمر لكي تتمكن من تطوير مواردها المادية بالطرق المختلفة وإدارتها بكفاءة أفضل بالإضافة إلى ذلك فثمة أمور أخرى تسهم في تطوير هذا الجانب منها:
تنظيم الاستثمار التجاري لمنشآت الجامعات وإمكاناتها وتفعيل إدارتها بطرق تجارية مع التخفف من العراقيل البيروقراطية، والتوسع في النشاطات العلمية التجارية وذلك مثل انشاء دور النشر الجامعية والمكتبات التجارية ومراكز الصيانة المتخصصة في الكليات الفنية وما إلى ذلك.
ايجاد صيغ للتعاون المشترك بين الجامعات والإدارات الحكومية الأخرى «وزارات ومصالح حكومية» عن طريق عقود مدفوعة بما يخدم مصلحة الطرفين، إذ يمكن من خلال تبنيه تشغيل العديد من الكفاءات الجامعية في خدمة المؤسسات الحكومية كما يمكن الاستفادة من المنشآت الجامعية لتحقيق موارد مالية للجامعات.
تفعيل وتكثيف البرامج التدريبية التي تنظمها الجامعات على شكل دبلومات او شهادات حضور، حيث يوجد حالياً في السعودية أزيد من 300 معهد تجاري مرخص للتدريب في حين ان نصيب الجامعات من مثل هذه الدورات قليل جداً. ان الزيادة في مثل هذه البرامج يجب ان تكون للجامعات حيث يتوفر فيها الكفاءات العلمية والإمكانات المادية الجيدة، الأمر المشكوك فيه من الناحيتين بالنسبة للجهات التجارية.
تشجيع أو الزام الشركات المتوسطة والكبيرة والمستفيدة من خريجي الجامعات بالاسهام في منشآت الجامعة، وفي كلفة البرامج فيها، والإعلان عن ذلك والاعتراف به من قبل الجامعات بحيث يكتب على واجهة المبنى أو على مسمى البرنامج بأنه من تمويل أو إنشاء الشركة الفلانية مثلاً حيث تتمكن تلك الشركات من دعم البرامج المناسبة لها وتحقيق هدف خدمة المجتمع والدعاية المعلنة في الوقت ذاته وهو ما تبحث عنه مثل هذه الشركات.
تفعيل العلاقة بين الجامعات والقطاع الخاص بحيث تتولى الجامعات تقديم الاستشارات والتدريب لموظفي المؤسسات والشركات الأهلية عن طريق ابرام عقود بينهما ويكون لعضو هيئة التدريس نصيبه وللجامعة نصيبها وللحق فإن النظام الجديد للجامعات يسمح بذلك ولكن المشكلة انه حتى الآن لا يلزم القطاع الخاص أو على الأقل يشجعه على ذلك وهو الأمر المتعارف عليه في البلدان الغربية بشكل عام.
فتح الباب بشكل واسع ومباشر للتبرعات والهبات وتشجيع ذلك من خلال مبادرة كبار رجالات المجتمع وأصحاب رؤوس الأموال والإعلان عن ذلك إعلامياً وتوجيه الشكر والاعتراف به في سجلات الجامعة كما هو معمول به في كثير من الجامعات العالمية حيث يتم تسمية المبنى باسم المتبرع أو يترك للمتبرع تسميته، مع وضع لوحة في مدخل المبنى بذلك.
5 تطوير المعلومات المتاحة وتفعيل استخدامها:
ان من يملك المعلومة يستطيع اتخاذ القرار الصحيح، هذه القاعدة هي عصب الإدارة الحديثة وما لم نطور معلوماتنا وطرق الحصول عليها وتوفيرها من جهة ونطور قدرتنا على الاستفادة منها من جهة أخرى فلن نستطيع تطوير جامعاتنا ولا مجتمعنا.
ان المعلومات سواء عن المجتمع «حاجاته ومطالبه، تطوراته، إمكاناته، اتجاهات التنمية فيه.. الخ» او عن الجامعة «إمكاناتها، مواردها، خططها المستقبلية.. إلخ» هي واحدة من أهم مدخلات التعلم الجامعي التي لم تأخذ نصيبها من التطوير. ان لدينا الكثير من البرامج التي تم افتتاحها والاقسام التي تم تشعيبها بناء على اتجاهات شخصية أو ظروف خاصة بقيت على ما كانت عليه دون تعديل او تطوير بل لعل بعض الأخطاء تصبح ظواهر اجتماعية قبل ان يتوفر لدى الجامعة مؤشرات رقمية عنها ودون ان تقوم الجامعة بتحرك ايجابي تجاه ذلك.
ان التطوير الحقيقي لهذا الجانب يستلزم تضافر الجهود في تحقيق أمور أهمها:
تفعيل مراكز المعلومات في الجامعات والبيانات التي لها ارتباط باحتياجات المجتمع من البرامج وتقديم البيانات الكافية حول أوضاع الخريجين، والمراجعة لقرارات الجامعة وفق البيانات والاحصاءات المتاحة.
تنمية اتجاه الإدارة من خلال المعلومة لدى العاملين في الحقل الجامعي ومتخذي القرار، والالتزام في تعديل البرامج والتخصصات وفق البيانات المتاحة والمؤشرات الرقمية التي توفرها مراكز المعلومات الجامعية والجهات الاحصائية الموثقة.
التنسيق بين الجامعات السعودية بل والخليجية وتبادل المعلومات فيما بينها والتنسيق في تقسيم النطاقات العلمية وفق حاجات المجتمع وإمكانات الجامعات.
ربط القرارات الجامعية بالمعلومات المتاحة والمؤشرات حول التعليم في الكليات الموازية او في التعليم دون الجامعي من جهة وبقدرات سوق العمل ونسبة الوفرة في العاملين «البطالة» من الجهة الأخرى، إضافة إلى مؤشرات التنبؤ بالسياسات العليا في هذا الشأن.
تأسيس هيئة متخصصة بالمعلومات والاحصاء الجامعي وتأهيلها بالإمكانات البشرية والمادية وتزويدها بالقنوات الإعلامية، بحيث تكون جاهزة للاجابة على الأسئلة التي ترد إليها من مراكز المعلومات الجامعية أو من الأقسام العلمية أو غيرها من الجهات ذات العلاقة بالتعليم الجامعي.
6 العلاقة بسوق العمل والاستجابة له:
سبقت الإشارة إلى الأهمية البالغة لارتباط التعليم الجامعي باحتياجات المجتمع ومطالب التنمية إذ لا قيمة للتعليم الجامعي البتة إذا لم يكن نابعاً أصلاً من ذلك، هذه المسلمة العامة بحاجة إلى توضيح من جانبين:
أولاً: ان الهدف الأساسي للتعليم الجامعي كما سبقت الإشارة هو تنمية الكفاءات القيادية لتنمية المجتمع، الأمر الذي يفرض ان تكون البرامج الجامعية مؤهلة للقيام بهذا الدور، وهذا يعني ان يكون لدى الجامعات القدرة الكافية على معرفة النقص في الكفاءات التي يتطلبها المجتمع، ومن ثم القيام بتأهيل أفراد من المجتمع للقيام بسد ذلك النقص.
كما ان ذلك يعني أيضاً ان يكون لدى الجامعات القدرة الكافية على التنبؤ بالاحتياجات المستقبلية للمجتمع ومن ثم تأهيل الكفاءات القادرة على القيام بتلك الأدوار في المستقبل.
ثانياً: ان الارتباط بسوق العمل والاستجابة له لا يعني بأي حال ان تدرب الجامعة منسوبيها على مفردات الاحتياجات الخاصة في المجتمع كأن يكون مهمة برامج الحاسب الآلي التأهيل والتدريب على تشغيل برامج التصوير الفوتوغرافي مثلاً باعتباره مجالاً توظيفياً لدى المؤسسات العاملة في هذا القطاع. ان مهمة الجامعات والكليات الفنية كذلك هي التأهيل وتنمية القابليات العامة وليس التدريب على الاحتياجات الخاصة للمؤسسات والشركات، فذلك من شأن المستفيدين من الخريج، وإلا لكان لزاماً على الجامعات ان توفر برامج دراسية بعدد المؤسسات والشركات في البلد.
لقد كانت الحاجة ماسة في فترة ماضية إلى عدد محدد من التخصصات فرضت على الجامعات الاستجابة لها وهو الأمر الذي لم يعد موجوداً الآن مما يستدعي تطويراً سريعاً واستجابة مباشرة للاحتياجات الحالية والواسعة لسوق العمل.
ان من الأمور المتفق عليها ان الجامعات ليست مسؤولة عن توظيف خريجيها ولكن من الأمور التي يجب ان تكون موضع اتفاق كذلك هو ان تسعى الجامعات جاهدة إلى تأهيل خريجيها لفرص العمل المتاحة حتى لا تفقد الجامعة معناها او تنأى عن القيام برسالتها في خدمة المجتمع والتنمية.
7 المناهج والبرامج التعليمية:
لعل الأهمية الكبيرة للمناهج والبرامج التعليمية قد توحي بأنها هي مدخلات التعليم الجامعي فحسب.. هذه الأهمية على المستوى النظري لم تنعكس بالشكل المطلوب على الأقل على تطوير البرامج والمناهج التعليمية في الجامعات السعودية. ان الواقع يشهد بأن القليل من البرامج الجامعية خضعت للمراجعة والتطوير، في حين ان جل البرامج بقيت ولسنوات طويلة جداً دون أي تغيير. ان مما يكرس انعدام أو على الأقل ندرة عمليات تطوير المناهج والبرامج يتمثل في عدم وجود أو عدم الرغبة في ايجاد دراسات مقارنة بين ما تقدمه جامعة سعودية وأخرى أو مقارنة مع جامعات عربية وعالمية. ان المشكلة الحقيقية تكمن في ان كل قسم علمي يباهي بما يقدمه لأنه قد تعوّد ونشأ عليه دون ان يملك الكثير من الأساتذة السعوديين الجرأة على تقويم وتطوير ما يعملون فيه او ما كانوا قد انجزوه.
شيء من الشفافية والوضوح أصبح ضرورياً وملحاً لتطوير برامجنا الجامعية، وهو أمر يستدعي الانفكاك عن جزئيات التخصص، والنظر إلى البرامج والمناهج من الخارج وبشكل أوسع وأعمق.
فالعين تبصر منها ما نأى ودنا
ولا ترى نفسها إلا بمرآة |
ان من المخجل حقاً ان نشير إلى أنه ربما تخرج طالب من قسم علم النفس دون ان يكون ثمة معمل واحد لعلم النفس أصلاً أو يؤهل الطالب في مجال الإدارة رغم انه لم يتعامل مع الحاسب إلا من خلال صورة أو ان توجد معامل وأجهزة كلفت ملايين الريالات وينتهي عمرها الافتراضي بسبب افتقاد الكلية للفني المؤهل لتشغيل الأجهزة.
انه حين يتم الحديث عن المناهج فليس المقصود محتواها التعليمي وإنما كل ما يشمله مفهوم المنهج من أهداف تلك البرامج ومكوناتها التعليمية وطرائق وإجراءات التدريس وأساليب التقويم المستخدمة، والتي هي جميعاً بأمس الحاجة للتقويم والمراجعة والتطوير، ثمة أمور أرى ان لها أهمية كبرى في تحقيق بداية جيدة لتطوير مناهج وبرامج التعليم الجامعي في السعودية وهي:
تأسيس مركز متخصص ومحايد تحت إشراف وزارة التعليم العالي لتقويم البرامج والمناهج الجامعية يتولى تكليف المتخصصين بمراجعة المناهج الجامعية وتقديم التقارير حولها كما يسند إليه مراجعة البرامج المقترحة من قبل الجامعات قبل افتتاح الأقسام بحيث تتم دراستها في ضوء إمكانات الجامعة من جهة، ومطالب التنمية من الجهة الأخرى.
توجيه بحوث الطلاب في الدراسات العليا في الجامعات السعودية لإجراء الدراسات المقارنة لتقويم وتطوير البرامج والمناهج في التخصصات المختلفة، ومن ثم نشر تلك الأبحاث والدراسات.
تكليف الجهات المستفيدة من الخريجين سواء كانت جهات حكومية أو شركات ومؤسسات المشاركة في تقويم مخرجات البرامج وكذلك في وضع خطط المناهج والبرامج في الجامعات السعودية.
التعاقد مع جامعات عالمية مختلفة للقيام بمشاريع مشتركة لتطوير البرامج العلمية للجامعات السعودية بما في ذلك اعادة التأهيل والتدريب للكفاءات الجامعية من أساتذة وعاملين واقتباس الآليات والطرائق المستخدمة في هذا الشأن.
مطالبة الأقسام العلمية في الجامعات بالتوصيف الكامل لمكونات برامجها والمواد المقدمة في كل مساق دراسي «محتوى المواد الدراسية» والوسائل المستخدمة في التدريس ونشرها في الإنترنت، وهذا سوف يحفز الأقسام إلى تطوير مساقاتها الدراسية من جهة، كما انه سوف يمكن المتخصصين والمهتمين من خارج القسم من تقويم وتطوير مكونات هذه البرامج إضافة إلى إمكانية استخدامه من الجهات الأخري كمواد للتعليم عن بعد «Distance Education».
تشجيع الكتابات الصحفية التي تتناول قضايا المناهج سواء من ناحية كفاءتها الداخلية أو من حيث ارتباطها بأهداف التعليم الجامعي وحاجة المجتمع ومطالب التنمية.
ان الإثارات الصحفية من قبل التربويين والمتابعين لتمثل عنصراً هاماً في تطوير المناهج الجامعية والأداء الجامعي بشكل عام.
تبني النظم والاستراتيجيات الحديثة في تطوير المناهج والبرامج الجامعية بما في ذلك تحديث وتطوير الأهداف ومكونات المناهج وطرائق وأساليب التدريس ومنهجية التقويم، إذ يعاني التعليم الجامعي في السعودية من التقليدية المفرطة والاعتماد على الطرائق النظرية في التدريس.
بهذه الالماحات اليسيرة نكون قد أتينا على مراجعة لأهم مدخلات النظام في مسيرة التعليم العالي، ولاشك ان الكثير من القضايا التي تم طرحها هي بحاجة إلى المراجعة والبحث والمطارحة ولكن الهدف من ايرادها هو لفت النظر إليها والالماح إلى أهمية مثل هذه المواضيع فحسب. امر آخر نختم به هذا المقال هو ان تطوير مدخلات التعليم العالي وحدها غير كاف لتفعيل التعليم العالي بل لابد من تطوير العمليات وضبط المخرجات، وذلك حسبما يقتضيه مفهوم النظام، وهو ما ارجو ان يتم تناوله مستقبلاً بشكل مفصل.
* أستاذ مساعد للتطوير التربوي بجامعة الإمام بالقصيم
|
|
|
|
|