| مقـالات
لا يعقد المسلم نية الإحرام إلا بعد أن يتحلل من مخيط الثياب، فينزع القمص، ويدع السراويل، ويعري رأسه من الساتر الملاصق، وبعدها يتزر بكساء، ويلتحف برداء، كاشفا رأسه، منتعلاً غير خف)1(، فيحس بعد ذاك ))كأنما بدل شخصا آخر بتجرده من ثياب الحياة اليومية ولبسه ملابس الإحرام(()2(، فيظهر حينئذ بالصورة التي أرادها له الشارع، محاكيا بتجرده هذا ))تجريده لغسل الموت حال الاختتام(()3(، متذكرا ))عند لبس إزاره وردائه لفه في أكفانه يوم فنائه(()4(.
ونحن نلبسها على اللحم.. كما حدث حينما نزلنا إلى العالم في لحظة الميلاد، وكما سوف يحدث حينما نغادره بالموت..جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم ونخرج من الدنيا بذات اللفة. هي رمز التجرد..لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد كل التجرد(()5(، إنه درس عملي، يتلقنه كل حاج منذ أن يخطو في أول درجات النسك :)6(
وإليكِ الميقات فاستقبليه
في خشوع وأقبلي في أمان
فاخلعي كل زائف من لباس
وادخلي في حقائق الأكفان
واطرحي كل رغبة في حطام
واجنحي في الرجاء عن كل فان |
إن المعنى الذي انتصب - مرارا - في أذهان الشعراء من رؤية لباس الحجاج البسيط الأبيض، هو معنى ))الاندماج الاجتماعي(()7(، الذي توحد به مظهرهم .))فالجميع قد اطرحوا الملابس والأزياء المزخرفة التي تختلف باختلاف الأقطار، واختلاف الطبقات واختلاف القدرات والأذواق، ولبسوا جميعا ذلك اللباس البسيط الذي يلبسه الغني والفقير، وذو الجاه والسلطان ومن لاجاه له ولا سلطان ((.)8(
يطالع الشعراء تلك الجموع، فيبصرون أفواجا تتماوج بها طرقات النزول لمكة، كلهم تجلل البياض، وقد سرى في دخائلهم شعور- منذ البدء - بأنهم كما أضحوا هكذا في المظهر، فيجب أن يكونوا كذلك في المخبر. ))لقد سوى الإحرام بينهم جميعا فلم يبق منهم غني وفقير ولا قوي وضعيف(( )9(. أو كما عبر البواردي :)10(
وحد الحج زيّنا مافقير
بالذي يرتدي علاه كبير |
ومحا اللباس ما يميز الواجد من الفاقد، فتآكلت بينهم فوارق الطبقات، وأصبح الجمع - في الظاهر - كالواحد :)11(
مظهر واحد فلا فرق يبدو
في لباس أو وجهة حين تدعى |
وهو من دلالات التساوي بين الناس :)12(
منها تساوي عباد الله كلهم
في زيهم دونما شيء من البطر |
وفي ظلال الحج تتوحد مظاهر الأزياء بين الحجيج، في خشية تشع من قلوبهم كأحسن مايراه الإنسان :)13(
تحت سماء الملة الزهراء
وفي ظلال الدوحة الغناء
وفوق هاتيك الربى الفيحاء
توحدت مظاهر الأزياء
في خشية شع بها الإحرام |
ومحمود عارف، يرى أن البياض شعار يروق العين، بل حلية تزين أجساد الحجاج، فيطوفون وقد تبخرت بينهم الفوارق، وتساوت الشكول؛ حتى أضحى التاجر الباذخ؛ مماثلا للقانع الأسيف :)14(
يرتدي أبيض الرداء فأكرم
بشعار محبب في العيان
حلية الطائفين، لا فرق فيه
بين مثر ومعوز أسوان |
وحين تزفرالمشاعر بأجناس الناس، فإن المظهر الذي يمكن أن يُتفق على أنه دليل وحدتهم، هو بياض اللباس الناصع، الغاشي لسواد الأجبل الداكن، هذا المظهر جعل طاهر زمخشري ينظر إلى جمعهم وكأن الحب قد سبكهم في بوتقته الصافية:)15(
في صعيد به المآزر بيض
حاكها الحب من نسيج الصفاء |
تلك هي الزاوية التي نظر الشعراءمنها إلى اللباس، وهذا هو المعنى الذي فرض نفسه عليهم كإيحاء سريع مشعوربه عند رؤيتهم له. غير أن هناك معاني أخرى صامت قرائحهم عنها،قد تبدو أحق بالذكر، وإن كانت أقل سطوعا ووضوحا من معنى الوحدة المستهلك.
الأمر الذي ذهل الشعراء عنه، فأخطاته عينهم الباصرة والشاعرة، هو معنى الانقياد الذي يمارسه الحاج في خلعه ولبسه، فلباس الحج لباس غير مريح ولا مليح، لأنك لا ترى محرما تحلل من النسك واستمر بقطعتيه ، ولا ترى مبتغيا للزينة يذهب به للمحافل وجمهرة الناس. أما رؤية بعضنا لجماله فما هو إلا نسبي؛ إذ هو نتاج لما قام في ذهن الرائي المسلم من اعتباره مجسدا للامتثال الرباني، وللوحدة بين المسلمين إنها مشاعر خاصة لا تسع إلا معينين؛ ومع كل ذلك هو مكتنز جدا بالدلالات. إن مظهر خلع ثياب العادة قطعة قطعة، وركنها جانبا، ثم لف قطعتين من القماش الخالي- حتماً -من الزينة والطيب، مظهر حامل لأرقى معاني التعبد والانقياد والامتثال للأمر الإلهي؛ دون تلكؤ أو تباطؤ .ولم أر شعراءنا بصروا هذا المعنى غير الغزاوي، أشار إليه في موضعين هما قوله :)16(
وتجردت لله واعتصمت به
وهتافها التكبير والإعظام |
وقوله :)17(
ما حسرنا الرؤوس إلا امتثالا
لأداء الفروض كيما تقام |
والعقيلي في قوله :)18(
حسروا الهام خشية واحتسابا
ولقوا الله في لفائف برس |
وعموما، فالشعراء لم يطيلوا في وصف اللباس إطالتهم في المظاهر الأخرى التي تصف مظاهر الحجاج، ولهذا تجدهم يقتصرون في ذكره على العبور السريع ببيت أو اثنين، كأني بهم يعدونه مرحلة صغيرة يكفيها المرور الخاطف .)19(
* قسم الآداب / جامعة الإمام
للمفاهمة الخاصة مع محرر صفحة مقالات 055175465
)1( انظر هذه الشروط في : المحلى 7/78، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي - تحقيق أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة.
)2( معي، ذكريات ومشاهدات 109 .
)3( أنوار الحُجج في أسرارالحِجج ، علي بن سلطان الهروي، تحقيق د. أحمد الحجي كردي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1،1408ه ص 66
)4( السابق 67.
)5( الطريق إلى الكعبة 15 .
)6( المجلة العربية العدد 203 صفحة 106، في ذي الحجة عام 1414ه والأبيات لسعد عطية الغامدي .
)7( مقالة تثمين المستشرقين لأثر فريضة الحج، مجلة الفيصل ، عدد 126 ص 22.
)8( الحج والعمرة أحكامهما وأثرهما في بناء المجتمع الإسلامي 28.
)9( في منزل الوحي 44.
)10( رباعياتي، سعد البواردي، دار الإشعاع، ط1،1391 ه ص17 .
)11( ملحمة نور الإسلام 44.
)12( حكم وأشعار ليس فيها شيء مستعارديوان محمد سليمان الفوزان، ط2، 1405ه ص 43 .
)13( التاريخ الأدبي لمنطقة جازان، محمد بن أحمد العقيلي،منشورات نادي جازان الأدبي، ط1،1413ه ،ج3/1959والأبيات لمحمد بن علي السنوسي.
)14( ترانيم الليل 1/653.
)15( مجموعة الخضراء 166.
)16( أحمد الغزاوي وآثاره الأدبية 1327 .
)17( أحمد الغزاوي وآثاره الأدبية 709.
)18( المجموعة الكاملة لمحمد العقيلي 313 .
)19( وردت إشارات للباس - أو ما يتعلق به ككشف الرأس - في بعض الدواوين انظرها في :
أحمد الغزاوي وآثاره الأدبية 1710،1114، المجموعة الشعرية الكاملة للعقيلي 314، الأعمال الكاملة لمحمد بن علي السنوسي 448، الأدب الحجازي الحديث بين التقليد والتجديد 2/557، مجموعة النيل 472 .
|
|
|
|
|