| الاخيــرة
* كان الرئيس الامريكي روزفلت يعد شعبه بالرّفاء الاقتصادي، وان كلّ عائلة امريكية ستجد دجاجة على مائدتها، وسيارة في «جراجها» وفطيرة تفاح مع كوب قهوة امريكية محترم وكان شعار تلك الفترة هو: ان الايام السعيدة آتية مرة اخرى.
* كانت فترة ما بعد الكساد العظيم: الحَدث الاقتصادي الأهم، والاكثر بؤساً في التاريخ الاقتصادي الامريكي الحديث.. وهو حدث كان له ما بعده ان كان بالنسبة للنظرية الاقتصادية، أو السياسات الحكومية، أو حركة الحقوق المدنية، او تشريعات دولة الرفاء. ولكن اكثر تلك التأثيرات بقاءً واستمرارية هو: الحلم الأمريكي: بدأ بالدجاجة المحمّرة، وفطيرة التفاح، والسيارة في الجراج، ثم استمر ولايزال نحو آفاق لا نهاية لها.
والحلم الامريكي بالثروة ، والشهرة، والجمال هو الذي يلهب الاسواق وينشطها ويحرك الصناعات ويفعّلها ويخلق الوظائف وفرص العمل ويديرها. وهو الحلم الذي تصدّره الثقافة الامريكية الى العالم عبر السينما وبرامج التلفزيون، فيلهب مشاعر الجماهير ويحرك آمالها، ويرفع توقعاتها.
ومع ذلك فهناك جانب مُظلم لهذا الحلم الامريكي، افردت له صحيفة )الهيرالد تربيون( مكانا بارزا في صفحتها الأولى. اشارت )الهيرالد تربيون( الى دراسات علمية نفسية متعددة تؤكد ان الشهرة والثروة والمال لا تجلب السعادة بل ان الثقافة القائمة على هذه المعايير للسعادة، تنتهي الى تدمير التوازن النفسي، والصحة العقلية.
* نحن نسمع، بالطبع، كثيراً من المواعظ، والحِكم الشعرية، بان الثروة لا تحقق بالضرورة سعادة، وان الشهرة قد تجلب المشاكل، وان الجمال والجاذبية قد تكون مدعاة للعقد النفسية ولكن بعضنا كان يتساءل فيما اذا كانت تلك الحِكم الرائجة ليست الا تعزية للمحرومين من تلك النعم، والتخفيف عليهم، ومواساتهم.
* وأعتقد ان الفقراء البائسين على أرصفة )بومباي(، او في أدغال افريقيا او مدن الصفيح في أمريكا اللاتينية والشرق الاوسط، سيعتبرون هذا الكلام استهزاءً بهم، او ضحكا على ذقونهم. ولهم العذر في ذلك وان كنت أظن انه لا علاقة لهم بالموضوع، لان هؤلاء يعيشون دائما على أرصفة الحياة وهامشها، ولا يعبأ بهم احد، ولا وزن لهم او صوت في قرار او امر، فضلا عن انهم لا يقرؤون جريدة )الهيرالد تربيون(.
* وإن ثقافة الاستهلاك القائمة على نموذج )الحلم الامريكي( القابل للتصدير والتغليف والترويج، لها تأثير كبير على حياة الشعوب وتوزيع ثرواتها ومواردها. وفي اطار العولمة، وشعار القرية الواحدة، تسعى قوى السوق الوثابة، الحاذقة، الى تنميط الاذواق، والمعايير وتسريع التوقعات وإلهابها والدلالات الاجتماعية والسياسية لهذه الديناميكية السوقية مهمّة ومقلقة.
كان العصريون في عالم الشرق، يعتقدون ان قيم القناعة والرضا، والتضحية والإيثار، هي قيم كسولة ومخدرة بل إن تلك القيم مسؤولة في ذهن هؤلاء عن التخلف الاقتصادي والاجتماعي والاستنتاج دائما، ان الانعتاق من هذه القيم، والتوجه صوب تمثال الحرية في نيويورك، والتأمل في ناطحات سحاب )مانهاتن( وارتياد مراكز التسوق و)بوتيكات( الازياء، ومعارض السيارات، هي خطوات على الطريق الصحيح القويم نحو الرخاء والتقدّم والتحضّر.
* سادت ولا تزال تسود، بل تطّرد في مدن العالم الثالث وأريافه وأدغاله ثقافة استهلاكية نشطة، ضغطت على الموارد والامكانات وأضلتها عن استخداماتها الاستثمارية المنتجة ،وخلفت اجواء من التوتر النفسي الفردي والجماعي، ونثرت بذور قلق اجتماعي وسياسي خطير.
* والدراسة التي اجراها البروفسور )ريتشارد ريان( استاذ علم النفس في جامعة )روتشستر( ، والبروفسور )تيم كيسار( استاذ علم النفس في كلية )كنوكس كوليج( في إلينوي، تشير إلى انه في حالة توفر الامكانات لتحقيق هذه الاهداف الخارجية من ثروة او شهرة او جاذبية فان الشعور بالرضا والانجاز، والاستقرار النفسي الداخلي قد لا يتحقق. ان هذه الاستنتاجات تبدو قائمة بصرف النظر عن السن او مستوى الدخل.. ويؤكد اصحاب الدراسة انه كلما سعينا حثيثا نحو البحث عن السعادة في الاشياء المادية اكتشفنا انها ليست هناك، وان الانشغال والاستغراق بتكدس الاموال يُحدث نتائج نفسية سيئة بصرف النظر عن مستوى الثروة التي حصلنا عليها.
والمثير هنا، ان الدراسات تناولت مجتمعات وثقافات مختلفة في اثنتي عشرة دولة تضم الهند، ومصر، واسبانيا، والمانيا، والصين، ورومانيا، وجنوب كوريا، وجنوب افريقيا، وكل النتائج تؤكد بوضوح ان السعي نحو الثروة مخلٌٌّ نفسيا، وغالبا ما تكون تخديراً وان هذا استنتاج صحيح عَبر الفروق الثقافية بين الشعوب.وتؤكد الدراسة بالطبع، ان الثروة ليست هي التي تجلب المتاعب وتحدث القلق والتوتر، لكن مصدر المتاعب، ان تكون الثروة هي نقطة التركيز في حياتنا، والحلم والواقع الذي تدور حوله .
الحلم الامريكي، يبدو هنا مشكوكا في صلاحيته للتصدير كحُلم عالمي.. ومع ذلك فلا عزاء هنا للفقراء، والمحرومين لان الباحثين الامريكيين )والهيرالد تربيون( يحرمونهم، حتى من متعة الحلم على الطريقة الامريكية.
|
|
|
|
|