| الثقافية
لا أريد أن أرجع إلى آراء نقاد القصة في تحديد شروط القصص الجيد ، فإن هذه الآراء لا تغنينا عن الرجوع إلى الأمثلة والتطبيقات، ولكنني أختار نخبة من كتّاب القصة الذين قرأت لهم واستزدت قراءتهم لأعرف بالخبرة والتطبيق شروط القصة التي أحسبها حقيقة بالإعجاب، وهم على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر من مختلف الأمم واللغات الأجنبية: دستيفسكي، وتولستوي، وبورجيه، ورمان رولان، وديكنز، وأورويل، فولكنر، وشتاينبيك، وبير لندلو، وأبانيز.
هؤلاء عشرة من كتاب القصة العالميين، نختارهم كما أسلفنا على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، ونتعرف من اساليبهم المنوعة شروط القصة التي ينبغي ان تتحقق عندنا للرواية الجيدة، ونذكر الشروط السلبية «أولاً» لأنها أظهر للجميع وأقرب إلى الاتفاق عليها من الشروط «الإيجابية » فنقول إن هذه الشروط على سبيل التغليب لا على سبيل الحصر أيضاً هي :
أن هذه الروايات ليست من روايات التسلية الرخيصة التي تقرأ لتزجية الفراغ..
وأنها ليست من روايات التهويل بالحوادث وخوارق العادات التي تروع القارىء بالغرابة كما تروعه غرابة الأساطير ...
وأنها ليست من روايات المبالغة في أخلاق الأبطال والبطلات إلى الحد الذي يلحقهم بمخلوقات «مافوق الطبيعة» ويخرجهم من عداد المخلوقات البشرية..
وأنها ليست من روايات الإثارة بتحريض الغرائز الحيوانية ومرضاة الشهوات الجسدية..
وأنها ليست من روايات «الأسرار» التي لاقيمة لها في ذاتها غير استدراج القارىء إلى متابعة القراءة لانتظار حلها، ثم ينقضي كل ماعنده من اسباب التشويق بعد الاطلاع على جلية تلك الاسرار...
وأنها ليست من روايات «الدعاية» التي تسخر الحقائق في سبيل الرغبة الفكرية ولاتسجل الرغبات والافكار في سبيل الحقيقة.
ولايصعب علينا بعد المراجعة اي نهتدي الى اسباب النفور من الروايات التي تعد من روايات التسلية، أو التهويل، أو المبالغة أو إثارة الشهوات، أو التشويق بالأسرار، أو الدعاية المذهبية..
فإن روايات التسلية الرخيصة إنما تقرأ لتزجية الفراغ، وقلما شعرت بفراغ الوقت منذ ايام الصبا الى ان جاوزت السبعين، فإنني اشغل الوقت بما يجمع بين الفائدة والمتعة الفنية.
والتهويل بالحوادث عندي نقص في الشعور وفي قدرة الكاتب الفنية، لانه يتهم قراءه بجمود الحس ويحسب انهم لاينتبهون لغير القوارع المزعجة ولايستمعون لغير الطبول التي تسمع الصم وتوقظ النيام، فلا حاجة الى الطبل الضخم لتنبيه من يستطيع ان يسمع الى همس الشفاه، حين يشاء.
واثارة الشهوات بضاعة يتجر بها الكاتب الذي يجهل النفس البشرية، فلا يعرف من دواعي اهتمامها غير الدواعي المشتركة بينها وبين كل حيوان ذي جنسين، وقد يقبل عليها القارىء عبثاً لانه يشتريها من المؤلفين ويطلبها في غير سوقها.
ونحسب اننا نقترب الآن من التفاهم على السبب «الموجب» الذي يدعونا الى قراءة القصة، بعد التفاهم الموجز على الاسباب السلبية.
فالقصة الجيدة هي كل قصة تصدقنا التعبير عن الحياة وتصف لنا «الشخصيات» الانسانية في صورتها الصحيحة.
ولابد أن نؤكد هنا كلمة «التعبير» لأننا نعني بها شيئاً غير النقل الحرفي عن الواقع وشيئاً غير «النقل الآلي» المنتظر من ادوات التسجيل.
وان الشاعر لاينظم القصيدة ليتكلم كما يتكلم المحب والمحبة او يبكي كما يبكي المحزون والمحزونة او يثور كما تثور عواطف الهواء وامواج البحار، ولكنه ينظم القصيدة ليعبر عن العاطفة بأوزانه وتشبيهاته، وليعبر عن البحر كله وهو لاينقل منه قطرة من الماء في شعره.
وهكذا يفعل القصاص بفنه حين يصف لنا «الشخصيات الانسانية» ويعبر لنا عن بواطن الحياة وظواهرها.. فإنه لا يصنع كما تصنع «ادوات التسجيل» في نقل الكلمات بحروفها، ولايفعل كما يفعل الشاهد في القضية حين يعيد ما سمع بنصه وفصه كما يقال اذا استطاع، ولكنه يحس القصة ويعبر عنها على الصورة التي تمثل فكره وشعوره، وتعير لنا الحوادث والاعمال كما تلبست بحياته وتغلغلت في طويته وعاشته وعاشت معه بعد ان عاشت في مكانها من دنياه، ولعلها لم تعش قط في مكان غير تلك الطوية..
وبهذا تصبح القصة عملا فنيا ويصبح العمل الفني تراثا انسانيا لا يتقيد بزمن ولا بلد..ولولا ذلك لما استطعنا ان نقرأ شعراء اليونان باللغة العربية لأن كلامهم بهذه اللغة يخالف الواقع.. ولولا ذلك لما استطعنا ان نسمع مجنون ليلى على المسرح ، لان الواقع انه ميت والموتى لايتكلمون ولايذوقون لواعج الشوق والهيام.
ولولا ذلك لصح قول القائلين إن اللهجة العامية هي اللهجة الوحيدة التي تصلح لتمثيل الاحياء لأنها لهجة الحديث في البيت والسوق، ولكنه قول لايصح بالنسبة للاحياء من بلد عربي آخر له لهجة عامية غير لهجتنا، ولا يصح بالنسبة الى الاموات من بلدنا وغير بلدنا، لانهم لا يتكلمون اليوم بلهجة من اللهجات، ولأنهم كانوا يتكلمون بغير لهجتنا الحاضرة يوم كانوا يتكلمون..
ونعود من هنا الى شرط «الانسانية» الذي ذكرناه في صفة الكتاب الجدير بالمطالعة، فنقول كذلك ان شرط «الانسانية» هو كل مايطلب في صدق القصة وصحة الوصف وتمثيل الشخوص من الرجال والنساء..
فإذا «عبرت» القصة عن نفس الانسان فذلك هو الشرط الأول والأخير الذي يشترط في أحسن القصص وأحقها بالمطالعة.
عباس محمود العقاد
* بتصرف من كتابه خواطر في الفن والقصة
|
|
|
|
|