| محليــات
اليوم.. استطعت فقط أن ألتقط ذلك المفتاح الذي ضاع.. في متاهات لم تكن تَكشف عن كنهها.. لولا أن توارت الشَّمس.. وسطع نجمٌ في الفضاء.. يُحدِّث بما هو كائن..
يا أنتِ..
لماذا لم تأتِ منذ ذلك الزَّمن الموغل في البُعْد؟...
لكنْ، جميلٌ أنكِ جئتِ..
والأجملَ أنَّكِ هنا.. وفي هذا الزَّمان والمكان..
أتدرين لماذا؟..
لأنَّكِ تحملين هذا المفتاح..، على الرُّغم من أنَّه دقيقٌ لا يكاد يَبين..، وقبلاً حين لحظة مولدي.. همسَت في أذني أمي وهي تقول لي:«لا إله إلا الله»..، فسرى فيَّ شيءٌ من الدَّبيب،
في تلك اللَّحظة تشكَّل مع الرَّسيس ذلك المفتاحُ.. وأخذ هيئته وصفته..
ألا تُحدثينني كيف تسلَّلتِ إلى الوريد، وأنقذْتِ المفتاحَ من بحره..، وهو يغرقُ فيه منذ ذلك العهد؟!.
أدري أنّكِ أقسمتِ بأنكِ لن تزُجِّي بين الوريد والوريد إلاَّ بكِ وحدكِ..، ذلك لأنَّ اختلاج النَّبض ليس في القلب، ولكنَّه في شلاَّل الضَّوءِ داخلَ مسام البحر في العروق، في الشرايين، في الأوردة، وأنها جميعها تصبُّ عند فُوَّهة المفتاح..
أنتِ.. جئتِ إلى حيث الفلاة تنبسطُ..، وحيثُ النَّجمُ يُطِلُّ..، وحيثُ حرف الكلمة يتشتَّتُ كي تعودي.. فيأتي معكِ الالتئامُ..، تضمِّين الفلاة، وتحملين النَّجم فوق كفَّكِ، وتجمعين الحرف إلى الحرف..، فيكون الكلام.. كلاماً في مهابة الرَّسيس في صدره الصامت إلا من رهجةٍ، وخلجةٍ، أنتِ من يُحرِّكُ فيها لحظة المفتاح!..
في هذه اللَّحظة وأنا أتحدثُ لكِ عن محطةِ وصولكِ.. أحدِّثكِ عن كيف كان لقاؤكِ فيها:
كان الليل يدلهمُّ..
والصّمتُ يحوِّم بحكمة الصَّبْر..
وأزيزُ القطارات، وحفيفُ الهواء في قوادم القوافل، وحشرجةُ الدَّبيب في أجنحة الطيور المغادرة، وصليلُ تأوهات الرحيل في حوافِّ المراكب، وهي تلتحم بالماء، إلى الماء، تتجه إلى دروبها، والمودِّعون يقفون على طرق القوافل، وعند منطلق القطارات، وعلى أعتاب المحطات، وبجوار أوكار الطيور.. يلوِّحون بدموعهم..، بأكفِّهم، بأصابعهم..، كنتُ هناك.. تجزأتُ جزءاً جزءاً.. في كلِّ موقعِ رحيلٍ غرستُ جزءاً مني..، لم أشأ أن ألتحمَ..، ولا شئتُ أن يرحل الليلُ.
كنتُ قد تعاقدتُ مع اللَّيلِ منذ اللَّثْغةِ الأولى، وبَصَمْتُ فوقَ محجَريْ عينيَّ عَقْدَ الوعْدِ بألاَّ أغادره، وبصمَ فوقَ مداه بألاَّ يغادرني..، الَّليل هذا محتوى الرحيلِ، بكلِّ ما فيه من دبيب الرحيلِ، وهمساتِ حركتِه في صمتِ الشَّجَن..، وفي بوتقة الحزن..
هذا اللَّيل يفوح بما فيه، من رائحة الوحدة، وإيغال الوحشة، وهجوم الأفكار، وأشباح القادمين في عباءاته الدَّاكنة يَلفُّون الآمال، ويلحنِّون الأحلامَ، ويضمِّدون وخزاتِ الوحشة، ورهبة الخوف. كنتُ قد حدَّثْتُه بأنَّني في انتظاركِ منذ اللَّثْغةِ الأولى..
احتواني هذا اللَّيلُ، وربَّتَ عليَّ، وما لبثَ أن حملني فوق إبهامه، وطاف بي المحطات، وأراني كلَّ المفاتيح، والمنافذ، والساحاتِ، بل الجيادَ الراكضةَ من المدى، للمدى، علَّني أجدكِ، لكنه هنا..، في هذه اللحظة، توقَّفَ اللَّيلُ، وأوقفني فوق إبهامه..، حملني إلى بَسْطةِ كفِّ المدى..، وبجوار المحطَّة التي أقلَّتكِ أنزلني..، همس لي..، بأنَّكِ قادمةٌ..، وإنَّ عليه أن يغادرني..
لم أحزن، أن يغادرني اللَّيلُ، وقد رافقني منذ اللَّثْغة...
ذلك لأنَّكِ حين أقبلتِ..، كانت هناك وثيقةٌ قد حلَّتْ بكلِّ حروفها الجميلة، بين عينيكِ... كانت عهدَكِ الميثاقي ألاَّ نغادرَ اللَّيلَ إلاَّ إليه، لكنَّ اللَّيل لنا، وإنَّا له..، وإنَّ ثمةَ ما يجمعُ اللَّيلَ بنا، ويجمعنا به..
تظلَّلْنا به..، ومنحنا سرمديَّته شيئاً من توحُّدِ المُضي، فكان الرَّسيس يبعثُ خَلْجةَ الإحساسِ بأنَّ ثمَّةَ ما سيأتي قد أتى، فكنتِ أنتِ، وكنتُ أنا...
لم أكن أرغبُ في فتح بوابات المحطات لكي أحدِّثُكِ بما هو أنتِ..
لكنَّكِ بحدَّةٍ تنهضين اللَّحظة، وبحدَّةٍ تحتلِّين المساحاتِ، والمساحاتِ، وبحدَّةٍ تكونين معي في كلِّ الذي مضى، في كلِّ الذي يكون، في كلِّ الذي هو آتٍ..
أنتِ أخذتِني من موقع الانتظار
إلى مداخل الانطلاق، نحو مدن المدى السَّرْمدي الذي لا يتناهى..
فأقبلتُ على اللَّيل أُسْلِمُه مفاتيح العَقْدِ..، كي يُسلِّمني بَصْمةَ الوعدِ.
وأنتِ، من كتب العَقْدَ، وبَصَمَ الوعْدَ، وشهِدَ..
وأنتِ من كانتْ، فجاءتْ، فتكونُ.
ألا فكوني كي أكونَ.. فنكون معاً..،
***
سوف تتوقف الزاوية ابتداءً من يوم غد الجمعة على أن تعود إليكم أيها القراء الأعزاء بعد إجازة عيد الأضحى المبارك.. وكل عام وأنتم بخير.
|
|
|
|
|