أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 27th February,2001 العدد:10379الطبعةالاولـي الثلاثاء 4 ,ذو الحجة 1421

الثقافية

دلال
فوزية الشدادي الحربي
غرفة الانتظار الموحشة رغم النافذة الزجاجية المطلة على حديقة خضراء، صرير عجلات عربات الممرضين التي يسحبونها في الممرات تزيد من وحشة المكان وبرودته صراخ الصغار المتقافزين على كراسي الانتظار خلف امهاتهم يزرعون المكان بالضحك يخففون من التوتر الذي يجعل ساعات الانتظار اطول مما يحتمله انسان ينتظر منذ البارحة نتيجة التحاليل.
كانت في كل مرة تنفث ما تجمع في داخلها من خوف وقلق وبتوتر تنظر للساعة التي بدت أكثر بطئاً من قبل.
في كل مرة يهز زوجها مفاتيحه خلف الستار الذي يفصل انتظار النساء عن انتظار الرجال ويناديها بصوته الخشن دلال.. تسدل النقاب على عينيها فتلمح سطوة الانتظار اللعين على وجهه يسألها عن سبب تأخر الممرضة في المناداة عليها ويشككها في تاريخ الموعد فتفتح شنطتها وتقرأ له الموعد الأربعاء 25/3/1421ه الساعة الثامنة.
يتأفف ولكن الساعة الآن الثانية عشرة. تحاول التخفيف عنه وما عسانا نفعل غيرالانتظار انت تعلم انني اعلق الموعد على باب غرفتي منذ ان انتهيت من آخر تحليل.
يهز رأسه يشير بحركة سريعة من يده لها بأن تعود لمكانها، كانت الساعة الثانية عشرة ونصف عندما نادت الممرضة بلكنتها الأجنبية د. لا. إلا .. تقدمها زوجها قابلتهم الطبيبة ببشاشة تسحب كرسيها لتلتصق بالطاولة اكثر تشير عليهم بالجلوس تبادر قائلة .. كيف الحال اليوم؟ هل تشعرين بتحسن؟
كلا فما زال الدم ينزف هل تصدقين يا دكتورة ان كل شيء بدأ ينزف حتى لثتي واظافري اشعر بغثيان ودوار.
تبتسم الطبيبة وتسألها عن حال أولادها، شعرت دلال بشيء من الانقباض لان من غير عادة الطبيبة الاطالة في الحديث وهي ايضا على غير عادتها لاتمسك بقلمها بل ترتخي اكثر على الكرسي. بدأ زوجها وقد نفد صبره خيراً يا دكتورة ماهي نتيجة التحاليل.
تزم الطبيبة شفتيها وتقطب حاجبيها بصراحة لا استطيع ان اخفي عليكم دلال مصابة باللوكيميا. لم تكن دلال وزوجها يعرفان هذا اللوكيميا لكن ملامح الطبيبة يوحي بانه مرض سيىء يسيطر الصمت برهة ثم تقول الطبيبة: إنه سرطان الدم.. بدت الغرفة فكانها قمقم من الصفيح واخذ صوت الطبيبة يلف يلف وصداه يملأ الاذان «طان . طان . طان . تقف دلال ويديها على رأسها تتحسسه هل هو في مكانه او اصبح كطبق استقبال يسمعها أضغاث احلام. ترتعش وتصرخ لا.. لا.. لا ارجوك قولي لي غير ذلك قولي: إنني مازلت أحلم هذا غير معقول.
الزوج مازال جسده النحيل يلتصق بالكرسي فاغرا فاه ومن بين يديه تنسل حبات سبحته مرتمية حبة .. حبة .. على الرخام البارد يرتفع صوت دلال المخنوق لا .. لا.. هل سأموت غير معقول ارجوك تقترب من الطاولة تمسك بأوراق التحاليل بيدين ترتجفان تقربها من عيني الطبيبة.. ارجوك ان تتأكدي قد يكون غير اسمي او يشابهه.. تتساقط دموع حارة فيبدو التأثر على وجه الطبيبة وتقترب لتضع يدها على كتف دلال تهدهدها بلطف جم لكن دموع دلال تنهمر كسيل جارف يقضي على ينابيع صغيرة من الاحلام تتوالد في جوفها يرتفع صوت نحيبها محرضا دموع زوجها، فقد تمردت دموعه على رجولته فهو لم يبك منذ ان فارق مرحلة الطفولة عدا قطرات فرت منه عندما ودع والدته في المقبرة.
لحظات من الصمت والذهول، يحمل الزوج عباءة دلال يضعها بكل حنان على كتفها المنتفض شعرت وكأنهن يلفها بالكفن فلم تستطع تحريك قدميها اتكأت عليه، كانت الممرات طويلة طويلة جدا ثلجية صوت الاقدام الضاربة على الرخام كقرع اجراس انذار.
الممر يتسع ويطول وحفيف الانفاس يعلو ويتكاثر القادمون والمغادرون لم يعد في ذهنها سوى صور اطفالها، فهذه بدور ونورة وعهود وعهد وحبيبها منذر كم تحبه لدرجة الهذيان فقد كان فرحتها بعد ثلاث بنات لم تكن فرحتها فقط ولكن فرحة والده واعمامه واخواله بكل دلالة ولثغته بالكلام. كم حلمت بأن تراه يحمل حقيبته ذاهبا لمدرسته تحبه بمقدار حبها للحياة هذه اللحظة تدور في رأسها صور تراجيدية موغلة بالحزن هل سألوم له عندما يذهب لمدرسته.
هل سأرى عهد صغيرتي وقد كبرت تتنهد.. بالجمال عيناها العسليتان اللتان بنظرته ما تخبىء اسرار الكون الفسيح.
تجهش بالبكاء فيزيد زوجها بالضغط على يدها، ارجوك يا دلال تماسكي فأنت تعلمين ان ابن خالتي اصيب بنفس المرض وتعافى وتزوج ولديه العديد من الاطفال وتعلمين ان الطب تطور كثيرا. يسترسل في الحديث وهي تغرق في وجه ام سالم جارتهم التي اصيبت بنفس المرض، تذكرها جيدا فقد تساقط شعرها ورموشها كانت كدجاجة منتوفة الريش الاجهزة تدق عن يمينها ويسارها وهي تحرك عينيها بنظرات باهتة.
يزداد البكاء والخوف وتتساءل كم مكثت ام سالم على هذا الحال شهرين .. ستة لن ازيد انا عن ذلك.. تملأ الدموع عينيها فلم تعد تتبين الباب الزجاجي كانت الشمس على رأسها كالنار وانفاسها كالبركان.
تصل البيت تشرع الابواب لمواكب الصراخ المختمر في جوفها، لم يكن زوجها اقل منها رغبة في الحرية هذه المرة يدلف بجسده احدى الغرف يبكي.. يبكي بقدر توجسه من الايام القليلة المقبلة فهو لا يستطيع تحمل ثانية بدون دلال عشيقته زوجته ام اطفاله، فقد حارب كثيرا ليتزوجها .. وكشاشة عرض امامه ترفع ستارة الذكريات فيراها وقد انحنى ظهرها خلف مكينة الخياطة متفيئة بذلك الجدار الطيني لتساعده على سداد دينه. يتأوه بحرقة وكشهاب من نار يشعر بزفرته يتمنى ان بيده السعادة ليهبها اياها، يتمنى ان يكون دمه عوضا عن دمها المريض يتمنى ان يمد الله في عمره ليحاول من جديد ان يهبها كل ماتريد..
آه .. آه .. تأوهاته كادت ان تشق صدره كادت الآن تربك ثقب الاوزون ينادي بصوت عال دلال اين سأدفن رأسي اذا قصفني الهم وقسا علي البشر يا الهي هل سأجرب اليتم للمرة الثانية يحضر الصغار من مدارسهم وعلى غير عادة الوالدين يبدو الهم والكآبة جلية على محياهم، تحاول دلال التماسك اكثر امام صغارها ولكن عبرتها تفضحها عندما لف منذر يديه حول عنقها تزاحمه عهد على حضن والدته الدافىء تلتصق بهم اكثر يزداد خلف النافذة الرعد وتنهال البروق بدون قطرة مطر.
في البيت الصغير يحل المساء تطفأ الانوار ويزداد صفير الرياح في الخارج يتآمر على دلال طارداً عن عينيها الذابلتين النوم فما زالت صورة ام سالم لاتفارقها تمر على غرف بناتها تعدل من اغطيتهن تتأمل ملامحهن تداعب شعرهن وكأنها تراهن لاول مرة تتقدم غرفة منذر لا تستطيع فتحها تقدم رجلها وتؤخرها تجمع قواها تدخل عليه وكعادته ينام على بطنه، وغطاؤه يلتف تحته، تحمله بلطف تقرب أنفاسه من انفاسها الحارة تعدلها وتنزله ودموعها تبلل وجهها.. يطول الليل وهي وحيدة مع مارد الخوف تقف امام المرآة تتحسس شعرها وحاجبيها ترتعش وتبتعد عن صورة ام سالم القابعة امامها.
في المستشفى الكئيب سلمت جسدها ودمها المريض لأيدي الاطباء استقبلت القبلة صلت صلاة الفجر دعت الله بأن يحفظ ابناءها وفي الصباح تحركت المشارط وعلقت اجهزة الادوية الكيميائية تخور قواها، كما يتساقط شعرها يكثر الزوار لا تستطيع تبين ملامحهم، ولكنها حتما تعرفهم ويعرفونها، ولكن من هم لا يهم مادام في الجهة الاخرى ابناؤها يداعبون اطراف اصابعها تبتسم لهم مع كل التفاتة فما داموا قريبين فحتما الحياة جميلة مشرقة.
يغادر الجميع يعتصرها الالم لوحدها مع رائحة الدواء وتكتة الساعة المشنوقة على الحائط ورنين الهاتف هناك في الخارج عند الممرضات الضاحكات بدون انقطاع طوال الليل.. جميع الغرف مطفأة انوارها ما عدا غرف اولادها التي تراها جيدا الآن وهي مسجاة كقطعة بالية على السرير المتحرك تحاكي الساعة كانت الحادية عشرة مساء تقول اذن باقي على زيارة ابنائي تسع ساعات تستحضر صورهم وكأنها تشتم رائحتهم الآن، تشعر بأن الغرفة تدور وتجري في اطرافها برودة ورعشة تزداد ضربات الاجهزة تتراكض الممرضات حولها ولم تفهم منهن الا استعجالهن طلب الطبيبة تزداد برودة اطرافها تتقيأ ترتعش تبرد تنتفض تتقيأ تشعر كأنها في بحر متلاطم تدور ويدور معها ابناؤها معلقين في السماء.. تمد يديها فيمدون ايديهم واعناقهم.
مازال طنين الاجهزة يرتفع وهي تزداد برودة وارتعاشا ودوار وتقيؤاً.
كانت الساعة تبكي وصول الثامنة عندما صمتت كل الاجهزة جسدها البارد وحيدا على السرير تسحب الابر من ذراعها المليء بالندب المزرقة يتقدم صغارها والدهم فرحين بزيارة امهم يناديها منذر وعهد ولاول مرة لاتجيبهم يتصارخون، ترتمي السلة التي يحملها ابو منذر يذوب السكر والقهوة على الرخام تتبعثر حبات التمر يرتفع الصراخ يحدث دويا هائلا ينزف الدمع من عيون الصغار دما حاراً يملأ جدران الغرفة والاغطية البيضاء والممرات الطويلة يلملمون اطرافهم عائدين الى البيت يحملون معهم شهادة وفاة دلال.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved