| عزيزتـي الجزيرة
أحياناً أحس أن التاريخ يريد أن يتوقف، ثم في اليوم التالي يأتي إحساس جديد أن التاريخ له هدف آخر أن يستمر ليضع حداً للحياة الدنيا.
كم سرعة التاريخ وهو «يتقدم» بالبشرية سبعين خريفاً وخريفاً نحو الهاوية، في الدرك الأسفل من المجهول. وماذا يريد الإنسان بهذا الكوكب الهائم في ملكوت الله؟ هل يزحزحه عن مكانه؟ أم يتجه به إلى الآزفة؟
لا أدري، ولكن يحكى أن عالماً من العلماء كان يتلاعب بالنباتات فلم تكن لديه مشكلة، يزرع الحديقة، ويقارن ويسجل، رأى النبتة القديمة بعد أسبوع من زراعتها «بطريقة ما» تُظهر نبتة جديدة، واستمر يعبث بالشتلات اللطيفة حتى تكشفت له قاعدة، وسجل «الجيل الرابع يشبه الجيل الثاني مع تركّز صفات الجيل الأول.. والجيل الثالث يكتسب صفات الجيل...» ثم ماذا؟ لا أتذكر. أما هو فمات وهو يحلم بأن تصبح «البرتقالة» «جريب فروت»، كم هو بريء «مندل»!.
ثم أتى بعد حين أحفاد هذا العالم وبدؤوا يتلاعبون بشيء أعظم وأخطر من النبات، تلاعبوا هذه المرة بمكوناتنا، بتكويننا، بالإنسان «بجينات» هذا المخلوق العجيب، الذي يسير في اتجاه غريب، فالفراشة يا سادة لا تعبث عندما تسير في اتجاه النور.. ثم النار.. وتموت، فهذا خط تسلكه البشرية ولكن بطريقة أكثر إبداعاً، وأطول زمناً، إن الفراشة وهي تسير الى النار في لحظات قصيرة، ربما تكتشف حقائق وعوالم، فهي تسير في خط تاريخ مرسوم لها، هل ندري بِمَ تفكر؟ وهل رأينا العلماء تركوا مهماتهم الجسام وجلسوا يحللون سبب انجذاب الفراشة للنار؟
إنهم لن يفعلوا ذلك فهم يلهثون وراء خط تاريخهم الطويل ويسيرون بالطريقة نفسها التي سارت عليها الفراشة بزمن قصير.
مَنْ علّم الإنسان جاداً وهو يعبث أن يمزج الملح بالنار؟! ثم من علم «نوبل» تفجيرالملح والنار؟ بل من علم أحفاده انشطار الذرة؟ وهل كان الذي بدأ بمزج الملح والنار يعلم ان نوبل قابع في مكان ما من خط التاريخ البشري.. بل هل كان نوبل نفسه يعلم عن هيروشيما شيئاً؟! إن الأول ليس بريئاً مما هو قادم، ولكنه بريء لأنه يسير مرغما على مركب التاريخ الذي لن يتوقف، واللاحقون ليسوا أبرياء ولكنهم مساكين لا يعلمون ان المسافة بينهم وبين النار تزداد قرباً بازدياد تألقهم في التحليق على خط التاريخ المرسوم، وهم يرون هذا التحليق يأخذهم الى نور وهاج جميل فيحلقون طائرين يختصرون مئات السنين، ويرون العقل قدرة قادرة، خارقة مقتدرة، فأطلقوا على هذا التحليق اسم «العلم».
إذا تساءلتم عن هذا التشاؤم، فدلوني وخالقكم هل الإنسان يتقدم للسعادة أم نحو الشقاء؟ فعندما يكشف الإنسان «شفرة» الجينات البشرية، هل يعد فتحاً عظيماً يشير الى وهج النور؟ أم الى مايبدو نوراً وهو نار؟
ما أشقى الإنسان وما أجهله، فهو في أحيان كثيرة يصنع الأشياء ثم تكبر وتتضخم حتى لا يستطيع السيطرة عليها. يكتشف ويخترع على مرّ التاريخ، وكل سابقٍ يمهّد التحليق للاحق، بدأ مثلاً بالدوائر الكهربائية وتفنن وابدع فصنع «الحاسب» ثم تمعن في الإبداع فسخر الحاسب واوجد الشبكة «الإنترنت»، ثم اخذ العالم يئن ويشكو من أشباح خفية لا نراها، تعيث فساداً عبر هذه الشبكة على امتداد العالم، يعدمون برامج ويسطون بسلاح العقل على المواقع ويتلاعبون الى حدٍّ يصل الى الخيفة والروع، هل يستطيع أحد أن يسيطر على الوضع الآن؟، لا أحد، وما خفي سيكون أعظم. إن صنع فكرة الشبكة «علم» وإبداع «تراكمي»، ولذا تظهر مشكلات تفوق قدرة المبدعين المتخصصين «الحاليين» لان الأمر خرج عن سيطرتهم، فهم يبحثون البدائل، ولا يستطيعون إلغاء الاكتشاف ومسحه وما ترتب عليه. فهل تستطيع الإمساك بالمخترع الأول لتلومه وتعاقبه، أم أن لا وجود له فهو فعل عقلي تراكمي.. ولذا فالمسؤول يمكن ان يكون التاريخ فهل تُرانا نعنّفه ونأخذه في الأغلال للتعزير والشنق والموت الزؤام.
أم ستقولون لا تاريخ ولا هم يحزنون، فهذا ينظر للأشياء بمجهر مكبر جعلها تبدو أمامه فوق حجمها الحقيقي فخوّفنا من وَهْمٍ يعشش في رأسه، فهذه هي سنة الحياة، لأن لكل شيء حدين «الخير والشر» فالمتفائل يرى هذا خيراً ولا يأبه للنهاية، وأنصار التشاؤم يرونه شراً ويتخوفون من زحف الشر.
فمثلاً مشكلة «الهاكرز» في الشبكات ليست الى هذا الحد الذي يلغي ما تحقق للبشرية من خيرات جمة، تواصل سهل، ومعلومات فائقة، واختصار مذهل للخطوات والزمن والعناء بمجرد كبسة زر بسيطة.
وكذلك علم «الجينات» وما تطور عنه سوف يفيد البشرية، فيخفف الأمراض المستعصية، ويحد من الإعاقة الجسدية، ويحسن حياة الإنسان، حتى وإن استخدمه دعاة الشر فيما لا تحمد عقباه من خلق أسباب لإنسان بلا مشاعر، أو آخر مشوه، وواحد ينتقم، وثانٍ لا يموت من رصاصة واحدة، ولا عشرين.
فكل شيء تستطيع ان ترى فيه وجهي الخير والشر، وقد يتنازل هذا المتفائل قليلاً ليستثني السلاح فيقول ما خُلق إلا للشر والموت والهلاك، ويزيده متفائل آخر اطمئناناً عندما يثبت له ان السلاح يحمي مكتسبات ومكتشفات الإنسان التي تقولون ان لها وجهاً فيه خير! بل يحمي الإنسان مما اوجده من أسباب الشر. وبين جدلية المتفائلين الأفاكين، والمتشائمين المشككين تضيع الحقيقة، ويبقى السؤال والحيرة.
الى أين يسير هذا العالم، على هذا الكوكب الذي استطاع الإنسان ان يقفز فوقه، ويطير حوله، فبفضل «النسبية» نفذ خارجه بسفن الفضاء في أقل من قرن، ليراه من بعيد كوكباً وضاء يبدو للقادم من «الخارج» مضيئاً كما يقول رواد الفضاء، لقد اشتعل كوكبنا وتوهج بسرعة رهيبة، إننا نتسارع بحسب النسبية أيضاً ونسير في كل مرة أسرع ونحلق بقوة تزداد بعلاقة طردية: كلما مرّ الزمن زاد الانطلاق.. ولكن إلى أين؟ إلى النور أم إلى النار؟، إنه طريق نسير به ونحن فخورون مثلما تسير الفراشة لتشقى.. وترى النار نوراً فتموت وتفنى!.فيا أيها الكوكب «المضيء» ماذا نريد على سطحك؟ هل نحولك عن مكانك؟! وماذا يكتنز لك العقل البشري، الذي يدعي أنه عظيم، هل سيصل الى حقيقة أنه مهما علم وادرك واكتشف واخترع وغيّر فإن علمه واكتشافه وتغييره لا يقع مقدار ذرة من علم خالق هذا الكون «العظيم»: «وأنّا لا ندري أشرٌّ أُريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربُّهم رَشَداً».
عبدالعزيز يوسف المزيني
الرياض
|
|
|
|
|