| مقـالات
أشرت بإيجاز في الحلقة الأولى من قراءة هذا الكتاب إلى محتوياته، وإلى عدم تأهلي بحكم التخصص لإبداء رأي حول جودة تناوله؛ وهي أمر يوفّر الثقة بحصولها مقدرة الباحثة، وتفوّق المشرف على دراستها، ومكانة من اشتركوا في مناقشتها. على أني أشرت، أيضاً، إلى أن هناك مسائل فرعية، أو ثانوية، وردت في مواضع من كتاب الأستاذة هتون يمكن للقارئ غير المتخصص أن يدلي بدلوه حولها، وأن يشير إلى أنها لو زيد الاعتناء بها لازداد الكتاب جمالاً وحسناً.
وتأتي في طليعة تلك المسائل الفرعية، أو الثانوية، اللغة التي كتبت بها الرسالة. وهذه اللغة جيدة بصفة عامة؛ إذ تندر فيها الأخطاء. ومن هذا النادر، الذي يمكن أن يكون سبق قلم، عبارة في «تقديم الأستاذ الدكتور الأنصاري )ص15(؛ إذ وردت «ألحقت الباحثة عملها بأربعة جداول وإحدى عشر خارطة واثنتا عشرة صورة توضيحية» وصحتها: «... إحدى عشرة خريطة واثنتي عشرة صورة توضيحية.» وعبارة للأستاذة هتون نفسها )ص124(؛ إذ أتت «يرجح خليل المعيقل وجود روماني.. في الجوف.» وصحتها: «... وجودا رومانيا في الجوف.»
ومن المسائل الفرعية، أو الثانوية، المشار إليها مايأتي:
نقلت الأستاذة هتون )ص95( عن ابن خلدون تعريفه للبدو بأنهم «المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام... ومن كان معاشهم في الإبل أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً )ممن كان معاشهم في الغنم والبقر(... وهؤلاء هم العرب.».
ومن ذا الذي لايعرف لابن خلدون قدره وريادته العلمية؟ لكن هذا العالم المفكر ربما بنى بعض آرائه في مسائل معيّنة علي تأملات ذاتية في أحوال البادية في عصره وفي البيئة المحيطة به. وليس ضرورياً أن ما شاهده في ذلك العصر وتلك البيئة صحيح بالنسبة لبادية الجزيرة العربية؛ لا في تاريخها القديم ولا في تاريخها الحديث السابق لعصر النفط. ولهذا فكلامه في بعض المسائل لا غضاضة في عدم قبوله دون تمحيص. لقد ذكر ذلك العالم المفكر الجليل أن من صفات البدو «الفلح». ومن المعلوم أن الفلاحة تعني الاستقرار لارتباط الفلاّح بالأرض المزروعة أو المفلوحة. والاستقرار ضد الترحال، الذي هو أبرز صفة من صفات البداوة. ولقد قالت الأستاذة هتون نفسها )ص96(: «إن المجتمع البدوي هو المجتمع غير المستقر الذي يمضي حياته مرتحلاً من واحة إلى أخرى»؛ سواء كان هذا الارتحال من واحة إلى أخرى كما ذكرت وهو أمر مرجوح أو من مرعى إلى مرعى كما هو الغالب الأعم لدى بدو الجزيرة العربية.
وقول ابن خلدون: «هؤلاء هم العرب» يقصد به من قال: إن معاشهم على الإبل؛ مقارنة بالبربر والترك والتركمان والصقالبة الذين قال: إن معاشهم في الشاء والبقر. وإيضاح هذا المقصود مهم لأن ذلك المؤلف الجليل يعلم كما يعلم غيره أن العرب ليسوا بدواً فقط؛ بل هم بدو وحضر. والبدو في الجزيرة العربية وموضوع كتاب الأستاذة هتون عن شمالي غرب هذه الجزيرة أساس معاشهم الإبل والغنم. وكانوا ينظرون إلى من يقتني بقرة نظرة ازدراء؛ وذلك حسب المعلومات المتواترة عن متأخريهم، الذين يرجّح أن نظرتهم قبيل تغيّر حياتهم بعد اكتشاف النفط وتدفق وارداته لم تختلف عن نظرة أسلافهم الاجتماعية عبر القرون. وتحضرني في هذا الموضوع حكاية طالما تردّدت؛ وهي أن أحد أفراد البادية استوطن في بلدة من بلدان نجد. وقدم أناس من جماعته إلى البلدة لبيع مالديهم من إنتاج وشراء ماكانوا في حاجة إليه من مؤن. ومع أنهم كانوا يرون في «التحضري» نقصاً فإنهم رغبوا في زيارته؛ ربما صلة للقربى، وربما رغبة في تناول القهوة لديه. ولذلك زاروه وإن كانوا على مضض. وفي العام التالي قدموا مرة ثانية إلى البلدة للهدفين السابقين لقدومهم الأول. فوجدوه قد تزوج بامرأة حضرية. ومعنى هذا أنه تمادى في «تحضريه». ولكن الرغبة الأولى في زيارته؛ صلة أو تناولاً للفنجال، كانت أقوى من أن يحجموا عن الزيارة بسبب ذلك التمادي. ولما قدموا في العام التالي، واقتربوا من البيت، سمعوا خوار بقرة فيه. قالوا: كل شيء إلا هذه. رضينا على مضض «بالتحضري»، ثم رضينا على مضض أشد بالزواج من حضرية. أما اقتناء بقرة فلا. ذلك أن البقرة مرتبطة بدرجة كبيرة بالفلاحة. والفلاحة تعني الاستقرار والاحتماء بأسوار أمام هجمات الخصوم، وهذا منافٍ للشجاعة، التي يملكها بجدارة في نظرهم من يدافعون الخصوم بمقارعتهم على ظهور الخيل دون أي أسوار وحصون.
قالت الأستاذة هتون )ص109(: «إنه كان للمرأة حق في التملك كما يبدو من بعض النقوش.»
ولا أدري إن كان هناك شك، أصلاً، في أن المرأة العربية في جميع القرون لم يكن لها حق التملك. ومما هو متواتر مثلاً أن عصر ما قبل الإسلام قد شهد نساء اشتهرن بالتجارة والغنى؛ ناهيك عن مجرد التملك. بل إن المؤلفة الكريمة نفسها قد أوردت أسماء ملكات عربيات فكيف يشك في وجود حق للمرأة في التملك )للثروة( وهي قد كانت ملكة لشعب أو قوم.
قالت الأستاذة هتون )ص140( اعتماداً على محمود أبي زيد: «يرى الكثيرون أن العرف هو الطريق الطبيعي الذي توحي به الفطرة للتعبير عما ترتضيه الجماعة من قواعد لإقامة النظام فيها حيث يكتسب حرمته من عراقته في القدم ومن المسحة الدينية التي تضفى عليه.»
وأول التعريف الذي أعطي للعرف قد يكون مقبولاً إلي حد ما. غير أنه من المعلوم أن العرف ينبني، بصفة عامة، على أسس أُتخذت لحل مشكلات لم يكن بعضها بالضرورة عريقا في القدم؛ وذلك عندما يقبل جيل حلّها بالطريقة التي حُلّت بها، فيصبح ذلك عرفاً لحل كل ما شابهها من المشكلات المستجدة؛ سواء حدثت هذه المشكلات في الجيل نفسه أو في الجيل الذي يليه. وعلى هذا فحرمة العرف لاتكمن، دائماً، في استناده على حلول لمشكلات عريقة في القدم. بل تكمن في قبول الجماعة لتلك الحلول واعتبارها سوابق يبنى عليها. أما القول بأن العرف يكتسب حرمته من مسحة دينية تضفى عليه فقول يحتاج إلى دليل. صحيح إن القضاة عبر التاريخ الإسلامي مثلاً قد يحكمون وفق العرف في القضايا التي لم يجدوا في مصادر التشريع الإسلامي الأساسية حكماً لها، لكن هذا أمر يختلف عما هو متحدث عنه هنا.
|
|
|
|
|