|
| الاخيــرة
لَستُ حفيّاً بالشأن الجزائري. ولستُ خبيراً في خلفياته وتفاصيله. ولكنني أستطيع القول بأنني، وكثير من العرب، معنيّون به، مغمورون شاخصون إليه، محدّقون فيه.
هذا الانشغال موجود، وقابع في الأعماق، حتى عندما لا نقرأ أخباراً جديدة عنه، أو نتداول الحديث فيه، أو نمارس التنظير حول أسبابه وخلفياته.
لقد ذبحنا الشأن الجزائري من الوريد إلى الوريد..
ونحن مذبوحون بالشأن الجزائري، لأننا، نسمع عن ذبح حقيقي، فيه، دون تجاوز لغوي، أو مبالغة لفظية. فننتفض، كبشر، انتفاضة طائر ذبيح، ونرتجف، ارتجاف بهيمة ذبيحة، ونتعجب، خائفين وجلين: كيف يذبح بشرٌ بشراً؟ كيف يطرحه أرضاً، ويشمر عن ساعديه، ناظراً إلى عينيه، سامعاً صرخاته، وتوسلاته، ثم يُمرر السكين من الوريد إلى الوريد، ويتركه غارقاً في دمائه، ثم يذهب يتنفس ويرتشف شاياً أو قهوة، ويمارس حياته عادياً، وربما جنساً عادياً؟
ونحن مذبوحون بالشأن الجزائري لأننا عرب أو مسلمون، أو عرب مسلمون، نتقاسم مع الشأن الجزائري، التركة الدامية، ثقافة وانتماءً، ونُعاصره أحداثاً وزماناً، ونتحمل مسؤوليته، ونحمل أوزاره ذنباً، وخطيئة.
إننا نتحوصل في أعماقنا، وأجواف أرحامنا، على السؤال الكبير المخيف الجبّار العاصف: هل نحن أمة من الذابحين والمذبوحين؟ أو كيف نحن أمة فيها ذابح وذبيح؟ هل هذا زمن الذبح العربي؟ وكيف يمكن أن يذبح عربيٌّ عربياً؟ كيف يذبح مواطن مواطنه؟ أو كيف يذبح إنسانٌ إنساناً؟ كيف يحدث هذا الذبح في الزمن العربي، وفي المكان العربي وفي الظرف العربي؟
ولابد من التوضيح هنا، أنني لا أُعرِّض بالجزائر أو بالجزائريين، فهذا ذبح عربي في المقام الأول، لا فرق فيه بين مشرق ومغرب، وهي معضلة قاتلة في الزمان العربي المعاصر، يتوجب علينا، جميعاً، النظر فيها، وشرحها لأنفسنا، قبل غيرنا، وتوضيحها لأطفالنا المقدمين على زمانهم، وفي ذاكرتهم البريئة مشاهد الذبائح العربية، وأخبارها، حتى لا يحملوا أوزارنا، مع أوزارهم، أو يظنوا بنا، أو بأنفسهم سوءاً، أو يصفوا أنفسهم بأنهم أبناء وأحفاد الذابحين، المذبوحين.
ولن أقول هنا بأن الأسباب تعددت، والموت واحد، أو أن الوسائل اختلطت ولكن الإرهاب واحد. فالعُنف السياسي والاجتماعي، بتعبيراته المختلفة يملأ الأسماع والأنظار. وضحاياه الأبرياء يزحَمون المقابر والمستشفيات، رموزه، وتنظيراته المختلفة مألوفة على نحو يبعث على الغثيان.
ولكن يبقى الذبح، عملية إرهاب شخصي مكثّف إلى أبعد الحدود ويبقى الذبح تعبيراً فردياً عن العنف المتطرف إلى أقصى مدى.
الالتحام، التحام حميمي، بين الذابح والمذبوح. والسكين، إذ تروح وتجيء على رقبة الذبيح، تعبر عن الإصرار والتصميم على هذا الالتحام الدموي الكريه.
الإرهاب بالذبح، تعبير متفرد خاص يحتاج منا إلى تفحص وتدقيق، والإرهابي الذابح، شخصية إرهابية متفردة تفرض علينا النظر والتأمل، بعد أن نتجاوز لحظات الذهول والاندهاش والغثيان.
ما هو الظرف الاجتماعي، والسياسي والاقتصادي الذي يُفرز ظاهرة الذابحين؟ وما هي الخلفية الفكرية والايديولوجية والثقافية التي ينطلق منها، الذبح فِعلاً، وتبريراً وتنظيراً؟ وماذا أقنع الحالة العربية المعاصرة، بجعلها قادرة على انتاج هذا الفعل السادي العنيف المتميز من بين أفعال الرفض الاجتماعي والسياسي المعروفة والمألوفة؟
تُداهمني الأسئلة، وتغرقني، وتذهلني، وقد أتجاهلها وأتناساها، أتشاغل عنها، ولكن شظاياها تترسب في الأعماق، فتُقلقني، تُرهقني.واستجدي الإجابات، من هنا وهناك، فلا أجد ما يشفي غليلي، يُرضيني، ويُشبعني.
تبقى الحيرة، غباراً يتغشّى النظر، ويُعكّر البصيرة، ويلوثها. ويبقى السؤال، نصلاً حاداً في عُمق الخاصرة.
|
|
|
|
|
