| أفاق اسلامية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله، أما بعد:
فإن من المعلوم ان تكاليف الاسلام الحنيف مترابطة ومتماسكة وتنطلق من منطلق واحد، وتهدف لغاية واحدة.
تنطلق من تجريد العبودية الحقة لله تعالى، المتمثلة ي شهادة ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله.
وتهدف التكاليف الى تحقيق رضا الله سبحانه وتعالى فكل عمل من هذه الاعمال يوصل الى هذه الغاية العظيمة الجليلة.
والحج في كل اعماله يرسخ توحيد الله سبحانه وتعالى ويعمقه، ويجدده في القلوب والاعمال.
فعندما يتهيأ من يريد الحج للحج فهو قد هيأ نفسه لاداء ركن من اركان الاسلام، وذلك بإجابته نداء خليل الله ابراهيم عليه السلام عندما أذن في الناس بالحج: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق( وكذا باقتدائه بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما حج حجة الوداع وقال: )خذوا عني مناسككم( فهو بحجه هذا جرد نيته لله سبحانه وتعالى حين استجابته لهذا النداء.
* وعندما يصل الى الميقات ليبدأ مناسك العمرة او الحج، نجده يبدأ بمسنونات الاحرام من الاغتسال والتنظف والتطيب، ولبس رداءين ابيضين نظيفين بعد خلع ملابسه المعتادة هذا بالنسبة للرجل، كل ذلك ليستشعر تغير الحال بأدائه لهذا النسك، فلسان حاله ينطق يغسل ادرانه وسيئاته السابقة ليبدأ عهداً جديداً مع ربه جل وعلا، ومن اهم تلك الشوائب والادران ما يتعلق بعلاقته مع خالقه جلا وعلا وما قصر في حقوقه سبحانه، وما اقترفه مما نهى عنه.
* وعند ركوبه السيارة او وهو في الطائرة او الباخرة ينوي الدخول في النسك فيعلن بهذه النية انتقاله من حال الاحلال الى حال الاحرام فتحرم عليه جملة محظورات لا يجوز له اقترافها فلم هذا؟ انه طاعة لله تعالى واستجابة لندائه وطمع في مرضاته! ويؤكد هذه النية بدخوله في التلبية التي هي اعلان صريح لتوحيد الله سبحانه وتعالى.
لبيك اللهم لبيك: استجابة لك يا رب بعد استجابة، فما جئت الى هنا الا تلبية لندائك فاقبل يا رب استجابتي.
لبيك لا شريك لك: فالاستجابة لك وحدك، خالصة لك من جميع ما يخدش الاستجابة، لا شريك لك في وحدانيتك وعبوديتك، لا شريك لك في ربوبيتك ولا في أسمائك وصفاتك، لا شريك لك.
إن الحمد والنعمة لك: فالحمد والثناء المطلق لك سبحانك، والنعمة بكل ما تحمله هذه الكلمة لك وحدك، فأنت المنعم المتفضل، فنعمة هذا الحج منك وحدك، وقبلها نعمة الهداية لسلوك الطريق المستقيم، وبينهما كل نعمة يحسها المرء ويعرفها او لا يعرفها:) لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك(.
وهنا وقفة: وانت اخي الحاج قد جئت لتحقيق التوحيد، وانت تتلفظ بهذ التلبية، هل وقفت مع نفسك متأملاً تلك النعم العظيمة التي انعم الله بها عليك، وفي مقدمتها نعمة التوحيد، فرطبت لسانك بالثناء على ربك بما هو اهل له، وسألته الثبات والمزيد، وهل تأملت حال اولئك المشركين والكفار والضلال، وماهم فيه من التيه والحيرة والشك والمعيشة الضنك في الدنيا، فضلاً عما سيلاقونه في الآخرة، اولئك الذين يتخبطون في مناهج الضلال، ويسلكون المسالك المظلمة التي بسببها انتشرت عندهم كثير من الآفات والامراض والازمات التي لا حصر لها؟
وهل وقفت مع نفسك معدداً نعم الله عليك لترى عظمة خالقك جل وعلا وإحسانه الكبير عليك،نعمة الهداية والتوفيق، ونعمة الامن والامان ونعمة الصحة في الابدان، ونعمة الخلق والتكوين وتفضيلك على جميع المخلوقات ونعمة تسخير الكون بذلك، ونعمة العقل وتمام الخلق ونعمة المال والرزق، ونعمة البصر والبصيرة..
نعم كثيرة قف متأملاً لواحدة منها فقط ترى ماهو واجب الله تعالى عليك. حقاً ان الحج يذكر تمام التذكير بهذه النعم الجليلة الموصلة في تأملها الى تحقيق توحيد الله تعالى. فهنيئاً لك ايها الحاج وانت تردد: )إن الحمد والنعمة لك، لا شريك لك( فرددها متفقهاً في معناها مخلصاً النية فيها محاولاً تطبيق مقتضاها لعل الله تعالى أن يجزيك الجزاء الاوفى.
وتأمل اخي الحاج في افعال الحج الاخرى، الطواف والسعي، ورمي الجمار فلم شرعت تلك الاعمال؟ أليست لإقامة ذكر الله تعالى، فلو تأملنا في الطواف حول الكعبة نجد انه تحقيق لعبودية الله تعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قبل الحجر الاسود قال: )والله إني لأعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك(. فهذا التقبيل طاعة لله وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم واقتداء بفعله صلوات الله وسلامه عليه، وهو صلى الله عليه وسلم يلتفت الى عمر في احد طوافاته صلى الله عليه وسلم وقد دمعت عيناه: يقول: )هاهنا تسكب العبرات( ذلاً لله تعالى وانكساراً بين يديه.
وقد شرع لنا هذا الطواف حول الكعبة، ولم يشرع أي طواف آخر غيره فكل طواف سواه بدعة في الدين وقد يصل الى حد الشرك الاكبر المخرج من الملة نعوذ بالله من ذلك وما أولئك الذين اتخذوا اضرحة واحجاراً يطوفون حولها قد جنوا على أنفسهم، واخطأوا خطأ كبيراً عواقبه وخيمة في الدنيا والآخرة.
وهكذا لو نظرنا بقية اعمال الحج من السعي ورمي الجمار والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى.. كلها اعمال يراد منها الوصول الى ذكر الله تعالى وتحقيق عبوديته وتجريد توحيده.
واذا ما انتقلنا لنتأمل تلك الجموع الغفيرة التي اجتمعت في مكان واحد )في عرفات( منقادين لذلك الوقوف، هيئتهم واحدة، متوجهين الى رب واحد، في وقت واحد، جاءوا يغلب عليهم الندم على افعالهم السيئة، يرجون مغفرة الله تعالى ورحمته، طامعين في تكفير سيئاتهم ورفع درجاتهم،واستجابة دعائهم وقبول حجهم، ورجوعهم منه كيوم ولدتهم امهاتهم.
في ذلك المكان المهيب، وتلك الهيئة المهيبة، افضل ما يقوله الحاج هو اعلان توحيد الله تعالى )خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت انا والنبيون من قبلي لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير(. اعلان صريح واضح بان لا اله الا الله. لا معبود بحق سوى الله تعالى. وحده لا شريك له فالمعبود هو الله وحده له الملك وله الحمد.
فتسقط جميع المعبودات امام هذا الاعلان العظيم، وما اولئك الذي عبدوا غير الله تعالى. او تقربوا اليه بغير ما شرع من طواف حول الاضرحة، او توسل بالاموات، او دعاء غير الله تعالى، او استغاثة بأولياء ونحوهم.. وغير ذلك مما يخدش التوحيد فقد ناقضوا انفسهم باعلانهم يوم عرفة ان ) لا إله الله الله وحده لا شريك له(.
وما اولئك الذين اتخذوا تشريعات غير شريعة الله تعالى من قوانين وضعها البشر مخالفة لشرع الله تعالى ورضوا بها فهم الآخرون الذين لم يحققوا إعلانهم بان ) لا اله الا الله وحده لا شريك له(.
وما أولئك الذين اتخذوا السحرة والكهان والمشعوذين ادلة لهم واطباء، واتبعوا كل دجال ومخرف، فهم ايضا قدحوا بشهادة ان لا اله الا الله وخالف فعلهم اعلانهم الذكر العظيم.
وما أولئك الذين استمرأوا معصية الله تعالى، وتهاونوا في طاعته، وخالفوا أوامره ترى كثيرا منهم في أودية المعاصي سالكين، وفي ميادين اللهو والغفلة متنافسين، فهولاء على خطر عظيم ان لم تشملهم رحمة الله ومغفرته.
وهؤلاء واولئك إن لم يتوبوا إلى ربهم ويرجعوا اليه ويقلعوا عما هم فيه على خطر عظيم في دينهم وفي آخرتهم تاب الله على الجميع.
وبعد: فذلك الوقوف العظيم يعود بنا الى تحقيق التوحيد في النفوس ليظهر على الجوارح.
اخي: وقد اطلت عليك في تأمل هذا التوحيد في هذا النسك ولاشك بانه يستحق الاطالة لعظيمة الامر وأهميته وكونه اصل الدين ورأسه.
اقول: كل افعال الحج واقواله تحتاج منك الى وقوف وتأمل لتجدد توحيدك لخالقك، وتجريدك لعبوديته، وتنطلق بجميع افعالك واقوالك من هذا التوحيد ليظهر عليك اثره في الحج وبعده. فقد رأيت من خلال هذه الامثلة كيف يحقق الحج التوحيد ويوصل الى رضا الله تعالى، رضي الله عني وعنك.. وتقبل منا انه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
* الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض
|
|
|
|
|