أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 21st February,2001 العدد:10373الطبعةالاولـي الاربعاء 27 ,ذو القعدة 1421

عزيزتـي الجزيرة

أبتاه ....آه ثم آه
الوالد الرائد في التربية والاعتماد على الذات
أبي... ها هو الموت يطل علينا في جولة رابعة وحاسمة، فقبل خمس وعشرين سنة انتزع من بين أيدينا أمنا الحبيبة، وثنى بعدها بزبيدة العزيزة خلال أقل من ثمانية أعوام، وثلث بأخي الأكبر محمد )رحمه الله( قبل عامين فقط والآن جاء ليأخذ الوالد والأب الذي يمثل لنا نحن أبناءه عبدالله ويحيى ومعتصم وعادل وأحمد وفوزي واسماعيل وسيدة وزينب ودرّة وفاطمة، واحة الأمان وخيمة العز والحنان الذي فاض به يده وقلبه على الجميع بل جاوز ذلك ليصل إلى جميع الناس من أبناء المنطقة الجنوبية وجازان علي وجه التحديد.
وكم من رجال رواد بكتهم الرجال كما قال الشاعر ولكن أبي بكته الرجال والنساء والصبيان فهو منذ عقود طويلة سخر نفسه لخدمة مجتمعه وأناسه صغيرا وكبيراً بكل فئاتهم وسادع ذكرياتي الشخصية معه رحمه الله وأسكنه فسيح جناته جانبا، لأتحدث عن شخصيته الاجتماعية والإنسانية وما قدمه للآخرين وأترك لقراء الجزيرة الحكم.
أولاً بسبب ظروفه المعيشية الصعبة في بواكير حياته رحل إلى مصوع أهم ميناء للحبشة آنذاك واسمرة عاصمة ارتيريا الحالية بحثا عن لقمة العيش بعد ان مات أبوه قتلا بسبب الثأر وهو لم يجاوز السابعة من العمر وعمل في أسمرة مع بعثة طبية ايطالية حيث كانت ايطاليا مستعمرة للحبشة وذلك في فترة الثلاثينات والأربعينات الميلادية وما أن عاد إلى صبيا حتى قام بممارسة التطبيب المعاصر على قلة المصادر والأدوية الطبية آنذاك ولكنه عرف أهم اختراع طبي ظهر حينذاك وهو )البنسلين( الذي يعد فتحا عظيما للقضاء على الميكروبات والبكتريا التي فتكت بالناس وأدمتهم وقيحت جروحهم سنين عديدة.
كما عرف أيضاً وسائل التعقيم بواسطة الكحول والماء الذي يسخن إلى درجة الغليان لتطهير الإبر والبراويز التي يحقن بها المرضى وكذا مسكن الألم )الاسبيرين( وهو اختراع شركة )باير( الألمانية. وقد ساهم ولايزال في تسكين الألم والصداع والاعصاب وتخفيض درجة الحرارة وتسييل الدم ومنع تخثره وابعاد الجلطات القلبية بالإضافة إلى مجموعات الفيتامينات وكذا حبوب الكينا الصفرا لمكافحة الملاريا وبودرة سلفاميد لمعالجة الجروح ووقف الاسهال وأدوية أخرى قد تفوت على الذاكرة الآن. واذكر ان الاسبرين كان على شكل بودرة في البداية ثم أصبح أقراصاً.
وبعد ان أحضر معه كل تلك الأدوية المعاصرة بجميع الفلوس التي عمل بها طوال تلك السنوات بدأ في معالجة الناس من الأمراض السائدة وأهمها الملاريا والبلهارسيا والدوسنتاريا واليرقان بالإضافة إلى تعقيم وتطهير الجروح وتضميدها بجميع أنواعها وإجراء عمليات الجراحة الخارجية فقط، وكذا صرف الفيتامينات والمعادن لمكافحة فقر الدم وسوء التغذية مع حرص شديد على التوعية الصحية وممارسة الرياضة لجميع مرضاه واذكر أن غرفة العيادة كان بها أهم لوحتين معلقتين الأولى تقول )المنزل الصحي هو الذي تدخله الشمس والهواء( والثانية تقول )لاتبصق على الأرض( واكره ما يراه هو ان يبصق الرجل أو المرأة على الأرض كعادة سيئة وتساعد على نشر المرض والعدوى.
أما الرياضة فينصح الرجال بالجري والمشي والنساء يخصص لهن مقداراً معيناً من الحب أو الدخن أو الذرة لتطحنه على مطحنة الحجر المعروفة بحيث يضمن ان تمارس هذه العادة لمدة لاتقل عن ساعة يومياً حتى وان كانت المرأة لديها أخريات مثل خادمة أو بنات يقمن بالطحن. وكان يمارس الرياضة يومياً ويحثنا عليها جميعاً. وخلال أشهر قليلة شاع ذكره وأصبح سيرة العم صالح أو )الدختور( باللهجة المحلية على كل لسان من بحرها إلى جبلها أعني منطقة جازان شرقا وغرباً ومن سامطة والخوبة جنوبا إلى مشارف جبال الدرب شمالاً ومع ازدياد شهرته وقدوم الناس إليه نقل العيادة إلى بيت كبير أوسع، وزاد من عدد الأسرّة وأضاف غرفة انتظار وأكثر من المعاونين الذين كانوا في البداية واحداً أو اثنين هما أخي محمد )رحمه الله( ثم عبدالله حفظه الله، وبعد ان سافروا للرياض وجدة للتعليم الجامعي جاء دور المعتصم ويحيى لنقوم بالمساعدة في غلي الإبر وتجهيز الضمادات وشحن الإبر بعد حلها وخاصة من البنسلين وكان يأتي على شكل عبوتين بودرة ناشفة في عبوة مستقلة وعبوة أخرى بها ماء مقطر، ولا بد من دمج الماء بالبودرة لحلها لتكون جاهزة للحقن خلال أقل من نصف ساعة.
ثم جاء دورنا لتعليم تنظيف الجراح ونزع الجلد الميت بقلب جسور ثم استخدام المطهر إما الكحول أو الهيدروجين بروكسيد ثم ديتول فيما بعد محلول مؤخراً ثم وضع المرهم أو بودرة سلفا ثم الربط واعطاء الحقنة المضادة من البنسلين أو الاسترومايسين، وقد كان ملما باحتمال حساسية البعض للنبسلين وتفادي ذلك باختبار الجلد. وعلمنا كل هذا بحيث أصبحنا نقوم بكل تلك المهام ونحن دون العاشرة من العمر، ولهذا نرى إلى اليوم من الشيوخ وكبار السن من يذكر حادثة أو جراح كاد ان يفتك به إلى ان جاء إلى العم صالح وانقذه من الموت بفضل الله وهناك عملية جراحية اعاد بها أنفاً مقطوعاً تماما أثناء معركة ثأر أجراها لشيخ الملحا والمخلاف السيد )حيدر النعمي( وأعاد بالخياطة الطبية والمضادات استطاع بفضلها إعادة الأنف إلى موقعه ونام السيد حيدر في العيادة ثلاثة أيام حتى تأكد الوالد رحمه الله بان العملية نجحت ومازال أبناء وأحفاد السيد حيدر يذكرون هذا الفضل للوالد أمام الناس وكان آخرها يوم العزاء في العم صالح والدي ووالد الكثير من الناس.
ثانياً في المجال التعليمي والخدمات الاجتماعية:
لم يكن والدي حريصاً على تعليم الأبناء فقط، بل كان يستغل ماله من مكانة وتأثير على كل من حوله من الرجال ليحثهم على تعليم أبنائهم وبناتهم وبالنسبة لنا نحن فقد علمنا اللغة الانكليزية ونحن في الابتدائية وكان يجعل بيننا سباقات حفظ الأبجدية الانجليزية ثم عدد الكلمات التي يحفظها كل منا ويستظهرها أكثر وهذا مما جعلنا نستطيع قراءة الوصفات الطبية من المستشفى والأطباء بعد ان جاءت المستشفيات في أواخر الثمانينات الهجرية بعد الألف وثلاثمائة مع حرصنا على قراءة اسماء الأدوية وتركيبها وأعراضها الجانية حيث طلب من الوالد العمل في أول مستشفى بمنطقة جازان كممرض نظراً لعدم حصوله على شهادة الطب الجامعية فاعتذر واعطوه ترخيصاً لبيع الأدوية ثم سمى مخزن أدوية السدمي وهي الصيدلية الأولى التي ظهرت في المنطقة الجنوبية ان لم تكن الأولى بالمملكة بعد انشاء وزارة الصحة وتعيين الدكتور/ رشاد فرعون )كأول وزير للصحة(.
أخيراً جاءنا رجل أربعيني قائلاً: رحم الله )الوالد صالح السدمي( فلولاه بعد الله لكنت اليوم فلاحاً وعاملاً في المزرعة مثل أبي وجدي. إذا طلب والدي ان اتوقف عن الذهاب للمدرسة وأنا بالسنة الثالثة لأساعده في حراثة الأرض وأعمال الزراعة وفعلاً توقفت عن الدراسة وعندما شاهدني العم صالح لا أذهب للمدرسة صاح في أبي وقال له يستطيع الولد ان يساعدك في الأرض بعد الظهر ويوم الجمعة ولكن ذهابه للمدرسة أمر مهم جداً وسمع النصيحة وعاد الولد ليكمل التعليم وبلغنا الآن أنه مشرف تربوي بإدارة التعليم. وغيرها الكثير من القصص لعلني اكتفي بقصتين هما.
الأولى عندما صمم الوالد رحمه الله على ادخال بناته وبنات اخته التي كانت تعيش معنا، وهما بنات خال معالي الدكتور مدني علاقي وزير الدولة ليدخل الجميع مدرسة الأولاد التي لا توجد غيرها لإيمانه بأهمية التعليم للفتاة مثلها مثل الرجل وصمم على ذلك وكنا نذهب اخوانا واخوات وإذا بالآخرين مثل العم مدني زكري رحمه الله خال ومربي معالي الدكتور مدني علاقي وزير الدولة حاليا يقرر ارسال بناته مع اخوانهن إلى المدرسة ثم الاستاذ البدري باصهي يدخل بناته المدرسة الابتدائية بصبيا وكانا معا مدرسين في نفس المدرسة، واذكر شخصيا ان في فصلي بالسنة الرابعة الابتدائية كان يوجد ست بنات فهل علمتم ريادة واصراراً على التعليم اكثر من هذا وقبل اكثر من خمس وثلاثين سنة.
الثانية كانت حكاية الدكتور يحيى ناصر الخواجي:
وهو استشاري طب الاعصاب والاستاذ بكلية طب جامعة الملك فيصل حاليا ولديه أكثر من دكتوراه في المجال الطبي. وقد تم ابتعاثه ضمن المتفوقين من الثانوية العامة لدراسة الطب في النمسا ثم المانيا منتصف الثمانينات الهجرية أو الستينات الميلادية وكان والده شيخا وقوراً ويحفظ القرآن وصديق للوالد من المقربين، وفي يوم الثلاثاء يوم سوق صبيا الكبير جاء الشيخ ناصر إلى صيدلية والدي وأنا حاضر ببعض الصور والمناظر التي أرسلها الابن يحيى بن ناصر من النمسا وإذا بالشيخ ناصر يقول يا صالح أنا خائف على الولد يضيع هناك يقولون ان هناك اباحية وخمور وحرية وأخاف يترك الصلاة وقررت ان يعود ويكمل تعليمه بجامعة الرياض )جامعة الملك سعود حالياً( مع ابنك محمد وعيال صبيا في الجامعة.
انتهى كلام الشيخ ناصر ورد عليه الوالد بشيء من الدهشة يا ناصر تسمع كلامي ونصيحتي وإلا لا؟ رد عليه كيف وأنا جيتك عاني ولا أمشي إلا برأيك؟ يا أخي ناصر طلب العلم فريضة والفريضة عبادة والولد راح يدرس أحسن العلوم والطب وأنسى كل حاجة إلا أنه يدرس الطب وسيأتيك دكتورا يعالجك ويعالج جميع الناس أما مسألة الحرية والصلاة وغيرها، فأنت ربيته وصار يعرف الصح من الخطأ والتربية الصالحة ما تضيع ان شاء الله، فلا تخف عليه ودعه يكمل تعليمه وطمئن الوالدة ولا تشوش على الولد بأي مسألة من هذا وواصل الدعاء له بالتوفيق والنجاح والصلاح وكل الأمور بإذن الله ملحوقة، وكنت في هذه السن المبكرة التقط الكلام واتخيل النمسا والشاب يحيى ومنبهراً بكلام أبي رحمه الله الذي وقف في صالح العلم وحلم الشباب ومنع كارثة كادت ان تقع لتنسف مستقبل هذا النابغة الدكتور يحيى خواجي.
ثالثاً في المجال الوطني:
ذكر لي الوالد رحمه الله انه شارك في اخماد انتفاضة حرب الريث والمسماة بمعركة جبل القهر وذلك بناء على أمر من الملك عبدالعزيز رحمه الله موجه إلى أمير جازان بناء على طلبه إذ رفع تركي السديري أمير المنطقة حينذاك ان هناك قتلى وجرحى كثيرين من الجيش الأبيض السعودي وان هناك شخصاً في صبيا طبيب يعالج ويضمد الجراحات ويدق إبراً ونحتاج إليه لمعالجة المرضى وإسعاف الجرحى والمصابين في المعركة وجاء الأمر وتجهز الوالد ورافق الحملة وأسعف كثيراً من الجرحى والمصابين وذكر لي الزميل الاستاذ موسى محمد سليم ان والده شارك في تلك الحملة وذكر له ان معهم دكتوراً من صبيا أسعف كثيراً من الجماعة ولديه علاج للملاريا التي فتكت بالكثير من المحاربين في وقت لم يسمعوا فيه سوى بالطبيب الشعبي أو الحجام الذي يكوي بالنار كما ذكر لي انه أهدى الملك سعود عندما زار جازان أوائل الثمانينات الهجرية ثلاثة من النوق الأصايل التي كان يعتز بها ويشار إليها بالبنان.
هذا فضلاً عن ادخاله أول كاميرا تصوير وانشاء استديو لتصوير المواطنين للحصول على التابعية عندما صدر أول نظام للجوازات والجنسية وتعلمنا منه التصوير واحضر الأدوية ايضا من عدن والبحرين لتظهير وطباعة الصور وقد تعلمنا جميعا هذه المهنة إلى جانب الصيدلة والعلاج.
ثم جاء بأول مقاول مبان لبناء منزل مسلح بمدينة صبيا ثم اتفق مع عدد من الأعيان واقترح عليهم شراء أول ماطور كهرباء في صبيا ثم جلب أول محلج لصناعة القطن وقام بزراعة القطن المصري متوسط وطويل التيلة في صبيا ونجح بصورة مذهلة والحديث يطول ويطول في هذا المجال.
وكان أول من طلب قروض البنك الزراعي لانشاء مزرعة حديثة ثم منحل لانتاج العسل وتربية النحل وللأسف تم القضاء على جميع طرود النحل وعددها 800 بواسطة رش المبيدات التي قامت بها وزارة الزراعة في المنطقة.
ختاماً أقول. آه .. ثم آه يا أبي لقد كنت رائداً لنا في التربية واستخدام العقل والاعتماد على الذات وكنت معلماً للأجيال وعزاؤنا فيك حب الناس جميعاً واتجاهك للخالق عز وجل الذي وسعت رحمته كل شيء وإلى رحمات الله ووسيع جناته مني ومن كل أبنائك وكل من عرفوك ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون قال الله تعالى ) يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي( صدق الله العظيم.
مع أصدق الدعوات بالقبول والغفران من ابنك الودود.
معتصم بن صالح السدمي
مؤلف موسوعة أوائل الإنجازات في المملكة العربية السعودية
ومدير الملحقية الثقافية بسفارة خادم الحرمين الشريفين بأمريكا

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved