| عزيزتـي الجزيرة
تزوج صديق عزيز، وشاء الله ألا أحضر زواجه، أدخلوه على عروسه، وبدأ «حياته» دون أن أحضر، تمنيت له زواجاً سعيداً، وعمراً مديداً، و«ذرية صالحة» وبعد أشهر دعاني لمنزله الجديد، فتذكرت أنها الزيارة الأولى لعش الزوجية كما يقولون ففكرت فيما يصلح من هدية لمنزل «مؤثث» بكل الكماليات والاحتياجات، وقلت في نفسي سآخذ تحفة فنية، أو لوحة جميلة، لكي يكتمل «جمال» منزله فهذا ما ينقصه، مررت على معرض للتحف والمشغولات والهدايا واللوحات، وبينما أنا أتجول داخل هذا المعرض متأملاً ومحتاراً بين أجمل هذه الجماليات، لفت نظري على رفٍّ مخملي جميل في إحدى الزوايا «تحفة زجاجية» ذات ألوان مختلفة، ومؤطرة بمرايا عاكسة.ثم يصعقني المشهد الذي رأيته إلى رماد، لتتأجل رؤية صديقي إلى «آخر الزمان».كُتب أعلى تلك التحفة الزجاجية بقلم أسود وخط عريض سيئ بلغتين، أما الإنجليزية فمكتوب «For your eyes only» وفي العربية: «ممنوع اللمس»، انتابني شعور يشبه الغضب، وبدأت أتحول إلى آلة تفكر في أمور أبعد ما تكون شعوراً عن الفن وسحره، والبهاء وجماله، والتحف وتشكيلاتها.
انبثق في البدء سؤال «بسيط» ليس هو سبب المرارة والشعور بالغضب، إنما سؤال عارض، لماذا تباين الأسلوب في اللغتين، فهو في الإنجليزية، غير مباشر، وبه تلطف، ومقبول جداً، أما في «لغتنا» الحبيبة فهو: مباشر، وكله جلافة، ويحفّز لبعده عن القبول على ارتكاب ردة فعل مضادة، رغبة وتمادياً في المعاندة، خصوصاً كلمة «ممنوع» التي تشبّع السلوك منها حتى اخترع العربي مثلاً يقول: «كل ممنوع مرغوب»، ليدل على تناقض في الجوهر والمضمون.بدا التساؤل السابق ليس مهماً عندما أتعمق أكثر مع أنه أدخلني في متاهة بين : «اللغة» فاستبعدت عدم قدرة إحداهما «العربية والإنجليزية» على التعبير الجيد؛ لأن كل لغة قادرة على الصياغة المناسبة، فاللغة إذا ليست المحك، إنما المحك الحقيقي هو «مستخدم اللغة» بما يعبر به من خلال نظرته للمتلقي. وأخيراً «المتلقي» بما يفرضه على مستخدم اللغة من أساليب وخرجت من دائرة هذه «اللغة» في هذا «المكان» إلى الأعمق.إلى السؤال الأهم وهو سبب تلك المرارة وذلك الشعور الذي صدمني، لأنني في «مكان» وجود هذه العبارة فيه سواء أكانت بالعربية أم بالإنجليزية أم حتى بالصينية، يكشف عن خطأ وخلل رهيبين. و«أهمية» السؤال أنه أدخلني في جدلية « التربية» التي لا تنتهي، وسأتحدث عنها، ولكن بعد «الفن».وسأضرب مثلاً بسيطاً يوضح التناقض والخلل: لو دخلت إلى منزل صديق لك ووجدت كأس ماء فارغاً كتب حوله أو عليه «ممنوع الكسر» في البداية سيتبادر إلى ذهنك أنك في المكان الخطأ، ثم تتدارك انه في منزل تعرفه، فلابد ان تتساءل: إما أن يكون هذا الكأس ليس للشرب! احتمال أو أن الذي كتب هذه العبارة على الكأس مجنون رسمي، أو أنه عاقل ويتوقع من ضيوفه أفعالاً جنونية، فإذا كنت عاقلاً وقرأت «ممنوع الكسر» فإنك ستأخذ الكأس وتضربه بالجدار.وأنا تصرفت بجنون فلم أكن عاقلاً في المعرض؛ لأنني لم ألمس التحفة الزجاجية، ولهذا انتابني شعور بالغضب فخرجت وجنون الأسئلة يتراقص في ملامحي، وتساءلت عن سبب كتابة تلك العبارة على تحفة فنية: هل وجود المعرض خطأ؟ أم أن توقع ان يأتي أحد ويلمس الزجاجة بيده فتتشوه، صحيح؟! ويلاه! ألهذا كُتبت العبارة؟تدثرتْ جمالياتُ «الفن» بداخلي، ذلك العنصر الذي لا يتأتى تأمله، والاستمتاع به إلا في المجتمعات التي تخطت جسر التناقضات التربوية والثقافية، وسمت بصفاء العقل عن «تراكمات» لا أعرف ماذا أسميها. فلو كان هذا المعرض مثلاً في باريس )حتى لو كان تجارياً( ، هل سيُكتب على إحدى تحفه: «ممنوع اللمس» أو «للرؤية فقط» أو «لمتعة ناظريك».. أو ما شئت من أجمل أدبيات التعبير؟ أم أن من سيدخل هذا المعرض «الفني» متفق مع نفسه «ضمنياً» أنه سيتأمل بعينيه لا غير، فإذاً لا داعي لهذه العبارات التي ستكون لحناً نشازاً لا يفهم عاقل صداه.
أخلص إلى أنني أتعاطف جدا مع الفنانين التشكيليين، وأقول لهم: إذا زالت «التراكمات» سوف تجدون أن «المعرض الفني» ليس قص شريط، واحتفالية، وادعاء بالتقدم والتحضر، إنما هو «فن» والفن « سلوك» يرتقي بإحساس ومشاعر تثقفهما التربية « الصالحة» الصحيحة.اسمحوا لي إن أطلت تأملاتي، فأنا أحدثكم من وراء الزمن، ولكي نتواصل أود أن أبين معنى «تراكمات» التي ذكرتها ولم أستطع تحديدها، إنها تشبه ذرات الغبار الصغيرة، لا تدري كيف أتت ثم «تراكمت» على مكتبك، غير أن الفارق يتضح في سهولة تنظيف ذرات الغبار، أما ما تراكم في نسيجنا العقلي والثقافي فهو شأن ذو شجون. والأمر ليس ببعيد من «التحفة الزجاجية»، فالذي كتب العبارة توقع أحداً سيستخدم يده، لأن عينه لم تصل إلى مرحلة أن تأبه بالجمال، وما تغفل عن سحره العينان، تتلاعب عبثاً به اليدان.
إنها أمور دقيقة تتعلق بفلسفة تربوية، تتخطى المكتوب على هذه «الزجاجة» من تحذير فرّغ جمالها، إلى «التراكمات» الدقيقة والبسيطة في حياتنا، نغفلها ثم تتضخم، فلا نرى من ضبابيتها وتتحكم في سلوكياتنا، فلا نبصر الخطأ خطأ، ولا الصواب صواباً. وهنا سأبرهن على «ذرة واحدة» من تلك التراكمات «التربوية» وعندها ستتخطون معنا حدود «الزمان» لكي نصلَ معاً إلى «الخلل» و«التناقض» ثم نعالجه، أو نموتَ معاً.فقد استجاب الله لدعائي وخلّف صديقي العزيز الذي لم أحضر زواجه ولم أرَ منزله «ذرية»، وكان يوصل ابنه منذ أن تفتح «إدراكه» إلى المدرسة «متأخراً عن الموعد المحدد» هكذا جرت العادة والذنب ليس ذنبك يا صديقي فأنت مليء بالتراكمات الخاطئة أيضاً ، تربى الابن على أن التأخير مثل: اللغة التي يكتسبها عقله دون أن تلقن له جملة جملة، فهي صعبة ومعقدة. ومثل: الماء الذي يشربه، سهل لا يحتاج إلى عناء. إنك بتأخرك «زرعت» في تركيبة هذا العقل النظيف الجالس بجانبك بكل براءة من حيث لا تدري قمقماً سيصبح مارداً يقوده إلى الهلاك وستراه يقتله فيما بعد . عندما بلغ مراحل عمرية، وجدته غير دقيق في موعد أضر بمصلحة، ستتقمص هنا دور الحكيم لتقول له في ثوانٍ : «يا بني، إن التأخير عادة سيئة، لابد أن تحترم مواعيدك»، ثم تمضي بخطواتك المتعالية بعد هذه الحكمة وما يشغله أثناء «النصيحة»: )هل ستعاقبه على الفوضى التي خلفها في الملحق(.. وستفتح تلك «العبارةُ» التي قلتها ولو زدناها كل ما في كتب الدنيا عن قيمة الوقت علامةَ تعجب «أو جنون» تشبه إلى حد كبير «ممنوع اللمس» على تحفة فنية. وفي اليوم التالي يخرج إلى المدرسة، ويقف عند السور يتحدث مع «آخر» من ذريتك يا صديقي، هل تسمعني ، تنذره المدرسة عن التأخير، وترسل لاستدعائك ورقة، لا أدري كيف أصف شعوره وهو يحملها لك، لكنه يشبه إلى حد التطابق شعور الضيف الذي وجد كأس الماء مكتوباً عليه «ممنوع الكسر»!! فإذا كان الطالب نجيباً «وعاقلاً» فإنه سيعطيك «شهادتك»: )استدعاء من المدرسة للتأخر عن الطابور(!! ثم تفرح به و «يتوظف» بعد عناء يُذهل كل والد عن ولده فيتأخر عن دوامه ويلفت المدير نظره، ثم يُخصم من راتبه. وتستمر حياته، وذات مساء )ونكون أنا وأنت على قيد الآخرة يا صديقي(، تحدّث ابنك بالهاتف قائلاً: «إن شاء الله .. نعم. نعم.. سوف أكون عندكم الساعة ثمان..» ويخرج من عند ذريته الساعة ثمان، ويأتي موعده بعد الثامنة بنصف ساعة، عندها لكي يعتذر «يُسقط» اللوم على الزحمة المسكينة في الشوارع. ويستمر على هذا الحال، وبعد «عمر مديد» يأتيه من يقول: لقد أحلت إلى التقاعد، فيتفاجأ أنه جاء في وقته.
ابنك قادم إلينا يا صديقي هل تسمع وقع أقدامهم فوقنا، فقد علمت ان ابنك خرج اليوم بسيارته وإثر حادث مروع بسبب السرعة، لأنه يريد اللحاق بموعد «مهم» رحمه الله فقد أتاه الموت في الموعد المحدد بالتمام، وحتى قبل أن يرى «التحفة الزجاجية» التي كان سيرثها عنك .. ها هو قادم، رحماك ربِّ بنا أجمعين.
عبدالعزيز يوسف المزيني الرياض
|
|
|
|
|