| مقـالات
إهداء الى حروف الهجاء التي باتت تشكل لهجات غير مفهومة:
قال القطامي في وصف الناقة المسؤولة:
يَتْبَعْن سامية العينين تحسبُها
مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل |
ما هذا الشعور بالمسؤولية والإحساس بثقل الأمانة؟.
وما هذا الجنون الذي جعل الناقة تتصرف هذا التصرف الغريب، الخارج عن المألوف والخارق للعادة مع أنه لا توجد جهة في هذا الكون وخارجه ستسألها او تحاسبها بسبب ضياع أمانة المسؤولية؟ فما القصة اذن؟.
أيتها الناقة السامية:
هل فهمت ما عجز البشر عن فهمه والشعور به، أم أنك باختصار تصرفت بوحي الحاجة لملء فراغ اقتضاه ذلك المنصب القيادي؟.
وهل أعطيت مصداقيتك له أم انك استحدثت مصداقيتك منه؟.
وأياً كان الجواب فأنت قائد بارع، مخلص لنفسه ومجموعته، ومبدع في اتخاذ القرار المناسب تجاه اي خطر يهدد النوع الحيواني بالانقراض.
وهل يختلف هذا الشعور وهذا الجنون عن جنون طائر الباتريوس القطبي، الذي يخرج صباحاً ليحضر الطعام لفراخه الصغار انطلاقا من مسؤولياته التي كُلّف بها وكتبت عليه، فإذا ما عاد مساءً دون طعام فتح جناحيه لتأكل الفراخ الصغيرة من صدره..؟؟
وبحق مطلق قد تعرتْ أمام هذا التصرف الجنوني كل الايديولوجيات البشرية دون قسم يُؤدّى كما يفعل العقل البشري المرشح لمنصب ما فيقسم بالله العظيم أيماناً مغلظة وعلى المصحف ألا يخون وطنه ولا يذيع سراً من أسرار أمته وأن يحافظ على مصلحة الجماعة.. ومع ذلك ينسى بعضهم هذا القسم العظيم ويخون أمته ويجلب العار لنفسه ومجموعته البشرية.
كان هناك شابان ولدا على هذه الأرض المباركة، وعاشا في كنف والديهما وتمتعا بالرعاية الكاملة ولمّا بلغا السادسة من عمرهما التحقا بالمدارس الحكومية، وبعد ان تخرجا في الثانوية العامة التحقا بكلية الملك فهد الأمنية، وتخرجا ضابطين، مسؤولين عن الأمن، وفرح بهما الوطن والأهل بعد أن أقسما بالله العظيم وعلى المصحف ألا يخونا المليك والوطن.. ومع ذلك نسيا أنه قسم لو يعلمون عظيم في لحظة شيطانية، واختطفا طائرة وطنية، وهربا بها الى نظام خائن لأمته ومجموعته.
حقاً كما قال البرت اينشتاين عن العقل.. «شطر الذرة وتجزئتها أسهل من اقتلاع حكم مسبق من عقل الإنسان».
أيتها الناقة المجنونة:
لماذا لم تعتمدي على العقل البشري وقوته المتمثلة في ذلك الراعي المسؤول عنك وعن قطيعك؟.
وما السر في الولاء المطلق والطاعة في كل فرد من أفراد القطيع الذي ينتظر أوامرك دون ثقة بالعقل البشري؟.
وباختصار فقد نجحت في مسؤوليتك بعيدا عن هاجس الهوية المؤدلجة والنفوس المبتورة الغارقة في الأنا والنحن والآخر، وتجردت من كل الأنساق الثقافية البشرية المزيّفة التي تعتمد على النخبوية التي لم يسلم منها حتى أفلاطون في حلمه «الجمهورية» عندما قسم المواطنين ثلاث طبقات: طبقة الفلاسفة، والعسكر، والعامة..، وتجاوزت بشموخ حيواني نرفانا بوذا ويانغ وين الصين، وسكينة كونفوشيوس وطاولاوتس وغنوصية أفلوطين، ولوغوس زينون وشطحات الحلاج وابن عربي.
قال أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة: «ان الإحساسات التي للحيوان على أصنافه لها غرض عظيم، وبذلك الغرض لها تفاوت عظيم، ظاهر وخاف، وأفعال معهودة ونادرة، ولها أخلاق معروفة، ومعارف موصوفة، ولولا ذلك ما كان يقال: أصول من جمل، وأغدر من ذئب.. وكما أن بين آحاد نوع الإنسان تفاوتا في الأخلاق كذلك بين آحاد نوع الحيوان تفاوت...».
أيتها السامية:
هل علمت أن جوهر الجنون هو الحنين الى الحرية كما قال د.استيفان بنديك في كتابه الإنسان والجنون، وأنت تبحثين عن حرية مستحيلة لا يمكن ان يتنازل عنها الراعي تقديرا لإحساسك وشعورك؟.
وما الفرق بين جنونك وجنون الضابط الأمريكي الذي ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما النقية في السادس من أغسطس عام 1945م وذهب ضحيتها مئتا ألف إنسان من سكان المدينة والبالغ عددهم أربعمائة وخمسين ألفا؟.
ولماذا نسي العالم الأمريكي فرانسيس فوكا ياما عندما أطلق في كتابه «نهاية التاريخ وخاتم البشر» قنبلة خطر من قنبلة هيروشيما فقال ان البشرية وصلت الى خاتمة المطاف ونهاية التاريخ فيما يتعلق بأنظمة الحكم والسياسة والقيادة عندما سقط المعسكر الشرقي وانتصرت الديمقراطية الليبرالية الغربية؟.
وما الفرق بين جنونك وجنون «أمير الحزن» الذي يقضي كل وقته في مسح ما حوله بورق التواليت، والاغتسال بثيابه صيفاً ومعطفه شتاء؟.
وأي فخر للعقل البشري في انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م، وجنون نيرون إمبراطور روما الذي أحرقها وهو يبحث عن انفعالات معينة ليرى أثرها في عزفه للموسيقى، وجلس يراقب «روما» وهي تحترق من أجل تأليف مقطوعة موسيقية فحقا كما قال المثل الألماني: «نقيم التماثيل من الثلج ثم نشكو من أنها تذوب».
واي فخر للعقل البشري في المذابح النازية والحروب العالمية، وحروب البلقان واغتصاب فلسطين واجتياح الكويت، ودموية «هتلر» وموسوليني وستالين ولينين وصدام.
ولماذا يعيش أكثر من ثلث سكان العالم، في ظل الفقر والجوع والتخلف والعبودية في هذا القرن الذي صدّر العولمة وثورة الاتصالات.
أيتها السامية:
جنونك جنون ايجابي يمارس في الطبيعة بعفوية التكليف وفطرة البدائية وقد نجحت دون اعتماد على نظام استخباراتي فريد كما تفعل أنظمة الاستبداد والدكتاتورية.
جنونك يبحث في النهاية عن مصلحة الأفراد وقد أعاد للجنون إنسانيته التي نسفت على يد العقل البشري المخيف وللأسف أنه لا ينتقل للآخرين عن طريق العدوى كما في جنون البقر القاتل.
يختلف عن شيزوفرانيا «جيمس جويس» وسكيزوفرانيا «إزرا باوند» وأعصاب بودلير وكافكا اللذين يمارسان الجنون بالمصحات العقلية.. وللأسف أيضا ان هؤلاء المبدعين يرون الأشياء كما يريدون دون مراعاة لما يريده العالم الخارجي.
قال د.لينغ: «المجنون ليس مريضا بجراثيم معينة، اذ ليست هناك جراثيم للجنون او وباء للجنون، اذن الموضوع لا يمكن بحثه تحت المجهر وإعطاؤه صفة الحقيقة العلمية الأكيدة.
تشخيص الجنون يعتمد على اختلال سلوك الفرد، واختلال سلوك الفرد ليس بالضرورة برهانا على اختلال تفكيره، لا العلم ولا الطب ولا أية وسيلة اخرى تستطيع قط الوصول الى معرفة ما يدور في أعماق اي انسان، وانما تحاول تخمين ذلك عبر مراقبة سلوكه، واذا كان سلوك المجنون غير مفهوم لنا، ولا ينسجم مع منطقنا ولا يتكيف مع مجتمعنا فذلك لا يكفي لإثبات ان ما يدور في أعماقه قد اختل او تخرب وتجب معالجته لاعادته كالآخرين، ولكن ذلك قد يعني شيئا آخر.
المجنون انسان اكتشف عبر حادثة مفاجئة عجزه عن تكييف انسانيته مع مجتمع مجنون.
المجنون بالتالي لا يهدد بقاء المجتمع الإنساني، وإنما هو أول ضحايا المجتع اللاإنساني المتجه نحو تدمير ذاته.
انه صفارة إنذار ليس المهم هو إسكاتها كي لا تزعجنا بل الأهم ان نعرف لماذا انطلقت؟.
وقد نجحت رواية «ماري أوهارا» الفائزة بجائزة نوبل للآداب لأنها اتخذت من الجنون الحيواني في شعوره بالمسؤولية هدفاً عاماً للرواية التي تقع في ثلاثة أجزاء «صديقتي فليكه» و«الرعاد» و«كارولين وجوهرة»، فالحصان «بيرق» يمارس شكلاًِ حضارياً لها عبر فهم متبادل بينه وبين صاحب المزرعة، والحصان «الرعاد»، قام بواجباته ومسؤولياته، وكان رافضا للجنس البشري تحت اي شكل وأمام كل ظروف ، ومدافعا عن قطيعه بما يملك وما لا يملك أمام الأسود والنمور الجائعة، إذ يذهب وحده لقتالها في الجبال ويعود بعد يوم أو يومين مليئا بالجراح والانتصار والولاء المطلق للمصلحة.. وبعد ان انتشرت الحشائش السامة في المراعي التي قتلت جزءا من القطيع انتقل به في النهاية الى المزرعة التي كان يرفض العيش فيها، وصاحبها الذي كان يرفض التعامل معه حبا في المصلحة العامة لقطيع مهدد بالانقراض.
والحصان «الأحسب» الذي يتمتع بولاء مطلق لقطيعه إذ رفض اي سلطة اخرى من المجتمع البشري وبأي شكل كانت فعاد خارجا عن القانون وقتل على حفيده «الرعاد».. وأخيرا قرأت أيتها السامية في كتاب الرافعي «تحت راية القرآن» هذه الحكمة في رسالة الى الجامعة المصرية: «تحرّز أيها العقل البشري من سُكر السلطان وسُكر المال وسُكر العلم وسُكر المنزلة». والله من وراء القصد.
Email: athani@maktoop.com
|
|
|
|
|