| مقـالات
قبل سنوات كنت قد تحدثت إلى الدكتور أحمد الربعي وزير التربية الكويتي آنذاك وكان في زيارة إلى لندن في إحدى الفعاليات الخليجية.. وكان حديثنا عما يمكن أن يقدمه للمؤسسة التربوية، حيث كان في بداية تعيينه وزيراً لهذا المرفق الهام، من أفكار جديدة ومضامين تساعد على إعادة البناء والتطوير في الشكل والمضمون..
وأذكر أن ما استرعى انتباهي آنذاك هو رغبته القوية في إلغاء المركزية في اتخاذ القرار التربوي.. وكان حريصاً على أن تمثل المدرسة نواة مستقلة في اتخاذ القرار، بدءاً من القرار الإداري وانتهاءً بالقرار المالي.. وتكون هناك ميزانية مستقلة وهناك مجلس آباء يشرف ويتابع قرارات المدرسة أولاً بأول، ويوافق على الخطوط العامة لتوجّه المدرسة.. وهذا كان قبل حوالي ثماني سنوات.. واعتقد أن كثيراً من هذه الأفكار قد وجدت التطبيق لها هناك.
وفي بلادنا، عندما جاء الدكتور محمد الرشيد وهو الرجل المناسب لتوجيه هذا القطاع بحكم التجربة والتخصص والبحوث والدراسات التي أجراها لسنوات طويلة، وبحكم المعرفة العميقة بالمؤسسة التعليمية في مجتمعنا، حقق بدون أي مجاملات قفزة نوعية في التفكير التعليمي والتحديث المؤسسي لهذا القطاع الهام من القطاعات الأساسية في مشروع التنمية الشامل في بلادنا.. ولم أكن لأكتب عن التعليم والتربية بحكم عدم تخصصي فيه، ولكن ما دعاني إلى ذلك هو ما قرأته بصحيفة الاقتصادية الجمعة الماضي )22/11/1421ه( عن «فرض النظام الجامعي على طلاب ثانوية في عفيف».. ويهمني في ذلك الموضوع ليس الشكوى الواضحة من مدير مدرسة الجزيرة الثانوية بعفيف.. التي لا يستحقها ولكن ما أظهره الموضوع من أطروحات عبرت عما يتفاعل داخل مؤسساتنا التعليمية من إعادة بناء وتطوير وتأسيسات جديدة في الوجه الداخلي والخارجي للمدرسة.
ما يحدث في عفيف يعد قفزة في مفهوم التعليم، وكسراً لرتابة النظام التقليدي وضخاً لمفاهيم جديدة تعكس التطور الذي تستلزمه المرحلة الحالية التي نمر خلالها والحقبة الزمنية التي نعيشها مع العالم في عصر العولمة الشاملة في كل الأنحاء والاتجاهات.. وتهيئة الطالب للنظام التعليمي في جامعاتنا هو هدف مهم يستحق إعادة النظر في آلية الدفع الاعتيادي للمعلومة وتأسيس مناخات جديدة مشجعة لعملية التلقي التي باتت صعبة في زمن التشتت العام في حياتنا وأفكارنا وسلوكياتنا.. ولم يكن مدير هذه المدرسة ليجتهد في وضع نظام تعليمي جديد دون أن يكون هناك تشجيع من وزارة المعارف التي تدعم وتشجع كل مفاهيم التطوير الجديدة.. وهذا ما عكسه الموضوع، حيث أشار إلى أن الهيئات التعليمية بوزارة المعارف قد اعطت الحرية للمدرسة والمعلم في التصرف وتجربة ما يراه مناسباً بشرط عدم حدوث أي تغيير على المنهج الدراسي المعتمد.. وربما استطيع أن أجزم كذلك بأن هذا التغيير يجب ألا ينقص من المنهج ولكن له أن يزيد عليه معارف وسلوكيات وقيماً.
ويتمثل النظام الجديد الذي يتم تطبيقه بتلك المدرسة في «توزيع الفصول على المعلمين وبقاء معلم كل مادة في الفصل المخصص له.. واستقباله للطلاب طوال اليوم.. وينتقل الطلاب بشكل مستمر بين قاعة وأخرى..» وقد استرعى انتباهي كذلك إشارة مدير المدرسة إلى أن هذا النظام هو أول تطبيق على مستوى المملكة.. ولعلمي الشخصي بوجود هذا النظام في مدينة الرياض منذ سنوات.. وتحديداً كان موجودا بمدارس طويق التي كانت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض تشرف عليها حتى نهاية العام الماضي.. ثم سلمت تلك المدارس للرئاسة العامة لتعليم البنات والتي ربما اجهضت على فكرة ومشروع هذا النظام الجديد بتحويله إلى نظام عادي مثله مثل باقي مدارس البنات في المملكة.. ولكن أعلم أن هذا النظام هو مطبق أيضاً وحالياً في إحدى المدارس الأهلية )مدارس المدرسة( بالرياض ويسمى فيها نظام المحطات، أي أن الفصل الدراسي عبارة عن محطة يتوقف فيها الطالب أو الطالبة لمدة خمسين دقيقة، ثم ينتقل إلى محطة أخرى.. وهكذا.. أي أنه تم إلغاء فكرة أن يظل الطالب في فصله طيلة اليوم، طيلة الفصل، طيلة العام.. وأصبح المعلم أو المعلمة ثابتاً في فصله الذي يكون قد هيأه تهيئة كاملة بوسائل تعليمية وأجهزة حاسوبية وبتنظيمات داخلية على شكل الأركان أو نظام السيمنارات الجامعية الجلوس الدائري والنظام يعطي كامل الحركة والحرية للطالب أو الطالبة في التجول داخل الفصل لمتابعة مختلف فعاليات المادة العلمية التي يكون قد وزعها المعلم على عدد من الوسائل والأركان.. بما في ذلك وسائل إثرائية ومهارات إضافية للطلاب المتفوقين.. وهذا النظام الذي «يثبت المعلم ويحرك الطالب» هو بديل للنظام التقليدي الذي «يثبت الطالب ويحرك المعلم».. وهذا النظام الجديد يعطي حيوية جديدة لدى الطلاب ويكسر حدة التعليم التقليدي الذي اعتدنا عليه.
وحسب علمي أن هذا النظام الذي كان مطبقاً في مدارس طويق، ثم في مدارس المدرسة قد تمت دراسته وما زالت بعض الدراسات قائمة حالياً بمقارنته بأنظمة تعليمية أخرى.. وأثبتت نتائج هذه الدراسات جدواها وفاعليتها الكبيرة على مستوى زيادة الثقة لدى الطالب والطالبة، والشعور بمسؤولية التعلم لديهم، وكذلك النتائج كانت إيجابية جداً لدى أولياء الأمور واتجاهاتهم نحو هذا النظام التعليمي الجديد.. إضافة إلى زيادة القدرة الاستيعابية للطلاب لمواد المنهج التي لم تنقص، بل نمت وزادت وأضيف إليها.. وكذلك هذا النظام بمرونته الداخلية في الفصل استطاع أن يمتص النشاط الحركي الزائد لدى الأطفال والطلاب من ذوي الاضطرابات أو السلوكيات الزائدة باتاحته الفرصة إليهم بالحركة في إطار التنظيمات الداخلية للفصل والتوزيعات التنظيمية للمنهج.
والمهم ليس من بدأ أولاً ومن طبق ثانياً ولكن المهم فعلاً هو كيف يمكن أن نؤسس لأنظمة تعليمية جديدة تواكب مستجدات التعليم في العالم وتنافس مشتتات العصر التي بدأت تطغى على نوع وحجم المعلومة ومقدرة استيعابها وتحليلها وتوظيفها في الحياة العامة.. والنظام التعليمي الجديد في طويق أو في المدرسة أو في عفيف هو لا شك نتاج طبيعي لجدلية التعليم التي أخذنا نفكر فيها بجدية ونعمق تفاعلاتنا معها..
ومهما يكن فإن العملية التعليمية تحتاج إلى وقت طويل وتأسيسات ثابتة ووعي شامل ومساندة من كافة مؤسسات المجتمع حتى ننهض بتطوير حقيقي لمؤسساتنا التعليمية التربوية.
|
|
|
|
|