| محليــات
هل فكرت في يوم أن تكون ذاكرتك مكتبة متنقلة معك..، ثابتة فيك... مشحوذةً، قابلة لاستيعاب كل ما تخزنه فيها...، تأخذ منها متى تريد، ما تريد...، تسترجع في اللحظة المناسبة منها بقدر حاجتك من المعلوم... بكل أنواعه وصفاته وموضوعاته ومضامينه؟!... تتسع بقدر ما يردها...، ولا ترفض أي إيداع فيها؟!...
مكتبة ذاكرتك هل تخيلت أنها تفي بحجم ما تفي به حصيلة كل لحظة اكتساب... من قراءة وسماع ورؤية عبرت بها طيلة مراحل وعيك بالقراءة؟!...
هذه المكتبة تغنيك عن حفظ أي كتاب يمر بك، وأية دورية تصافحها...، وأي مستخلص ترغب في الاحتفاظ به؟!...
فكِّر مليا في مثل هذا السؤال...، وتخيل ذلك...، ثم أجب...؟!
عن نفسي لم أستطع الإجابة بنعم... ذلك لأنني لي من معرفة ذاكرتي ما يجعلني أشك كثيرا في إمكانية تحقيقها ذلك.. وعلى وجه الخصوص لمعرفتي المطلقة بأن المكتبات القائمة من الأبنية الأسمنتية بكل مستودعاتها وأرففها وحجراتها ووسائل الحفظ فيها والاقتناء لا تستوعب كل مطبوع ولا مسجل، ولا «مبرمج»، ولا محفوظ بطريقة قديمة أو حديثة...، بكل ما فيها من الوسائل والمساحات والامكانات المادية، وبكل ما لها من العناصر البشرية التي تعمل فيها وعلى أغراضها كي تتحقق... فما بال بمكتبة من )لحم ودم(... هي بلا شك تتلقى كل يوم بل كل لحظة، وما تتلقاه ليس فقط )مادة( علمية، أو خبرة مكتوبة.. هي مكتبة شبيهة )بالسوبر ماركت(.. احصائية استيعابية لكل شيء يعبر بها من أوجه، وأحداث، وأفعال، وأقوال.. ومن معارف وعلوم.. بل أصوات كذلك، بل )حركات( أيضا، شبيهة بحركات الشَّكل في حروف العربية بعضها مرفوع بما فيه من )حدة( أهمية فيظل يقظا حاضرا فيها، وبعضها )منصوب( يمكنه التَّمدد والتَّمطي والاستلقاء والاستراحة كي ينهض عند الحاجة وبعضها )مجرور( ليس ذا أهمية ينزوي تحت متراكماتها... ربما ينهض وربما يظل مخبوءاً لا أهمية له. ولأنني أؤمن إيمانا مطلقا بقدرة الله تعالى في خلقه.. فإنني مع كل ما قدمه المحللون والمنظرون ودارسو )أعضاء( الجسد البشري من أطباء، وعلماء اجتماع ونفس، ومحللون مختصون، بل مفكرون أيضا، بعضهم اختص في مادية هذا الجسد، وبعضهم اختص في وظائفه النفسية، وبعضهم اختص في آليته الحركية...، وبعضهم غاص في فلسفته وأعماقه الخفية وغرائبه، فإنني أؤمن بأن كل هؤلاء سيقفون مكتوفي الأيدي، يحارون تماما أمام قدرة الله إن شاء لهذه الذاكرة غير المرئية وغير الملموسة أن تكون المكتبة ذات المواصفات التي ذكرت في بداية هذا المقال..
ولكن... مع كل هذا هل فكر أحدكم في شيء من هذا يتعامل وفقه مع ذاكرته على أنها المكتبة فيتخلص من جميع ما يقرأه فلا يحرص على اقتنائه بناء على مرجعية ذاكرته؟!
ولو بسطنا المقارنة بين ذاكرة الإنسان فينا وما توصل إليه الإنسان نفسه في أمر )ذاكرة( جهاز صغير يعجز وهو أمام شاشته أن يفسر قدرة الله تعالى في خلقه وهو يؤسسه ويبنيه شبيهاً بالإنسان...، هل يمكن أن يقول إن ذاكرة الإنسان فيه مثل ذاكرة الكمبيوتر؟!... وفي الوقت ذاته الذي لا تتضرر الذاكرة البشرية إلا بمرض ما يلحقها...، يتضرر الكمبيوتر في ذاكرته بشبيه مماثل هو )الفيروسات( التي تدس في شرايينه؟!
ومع ذلك يظل هذا الجهاز عاجزا عن استيعاب ما لا يستوعبه مما لم يهيأ له؟! ويظل مع كل محدثاته المتواصلة غير قادر على إعجاز الإعجاز البشري لأن هناك إعجازا أقوى في الإنسان ذاته هو إعجاز الله تعالى...، وبأن الإنسان مهما فعل يظل يكتسب صفاته من اشتقاق اسمه؟! ومن بشريته، ومن محدودية عقله وقدراته ومحدودية علمه؟!...
أتدرون لماذا حدثتكم عن كل هذا؟!...
تذكرت طلبا وجهه إليّ وإلى )زملاء( فصل دراسي في مرحلة الماجستير في الولايات المتحدة أحد أكبر أساتذتنا وأشهرهم وهو أن نتخلص من أي كتاب بين أيدينا، حتى بوضعه على قارعة الطريق كي يلتقطه من يقرأه ومن ثم يمنحه لغيره كي تكون المعرفة في متناول الجميع وأن نجعل كل خبراتنا مستقرة في )ذواكرنا( بمعنى أن تكون هذه الذواكر هي مكتباتنا...!!
وألح إلي باسترجاع هذا الطلب اكتظاظ مكتبتي بما فيها...
غير أنني في تذكري لهذا الطلب لم أخن ثقة أستاذي في مرجعية الذاكرة؟!
ويبقى السؤال: هل يمكن ان يتحقق ذلك بشكل مطلق؟!.
إنه لو تحقق لاستطعنا شحذ وتهيئة ذواكرنا من جهة، ولعمّمنا الفائدة من ثمرات القراءة من ناحية أخرى..
و... تظل مثاليات الإنسان مثاليات...
|
|
|
|
|