| مقـالات
قال لي صديق انه معجب من ردود فعله المتغايرة تجاه النقد. ففي بعض الأمور تكون حساسيته شديدة وفي بعضها الآخر تكون معتدلة، فهو يثور إذا انتقده أحد في مهنته )مهندس ديكور( ويكون أقل ثورة وحساسية إذا انتقد اداؤه في ميادين أخرى كقيادة السيارات مثلاً، وقال إن هذا الأمر يؤلمه ويخجله أحياناً وخاصة ان عمله يهم الناس الذي يكلفونه ومن حقهم ان ينتقدوه مهما تباينت اذواقهم عن ذوقه، ومن واجبه ان يستمع إليهم ويأخذ انتقاداتهم في الاعتبار.
وسألني ان كان لدي تفسير لذلك يبصّره بخفايا نفسه ويساعده على التغلب على هذا الشعور المر الذي يعاني منه.
فقلت له ان هذه امور يعرفها كثير من الناس ولكنه قد لا يستطيعون التعبير عنها، فما يشغل بالك هو ما يعرف بنطاق أو دائرة الكفاءة، فلكل إنسان دائرة يتفوق فيها ويستمد منها جزءاً كبيراً من اعتزازه بنفسه وثقته بها، تليها دوائر أخرى تقل عن الأهمية كلما ابتعدت عن الدائرة الأصلية.
ولأنه يستمد من دائرة كفاءته هذا القدر من العزة والثقة بالنفس فإن أي انتقاد له فيها هو أشد عليه وطأة من انتقاده في الدوائر الأخرى، الأقل أهمية، كما ان أي ثناء عليه فيها هو أبلغ أثراً في نفسه وأقرب طريقاً إلى كسب وده ومحبته.
وكلما كثرت دوائر المرء زادت ثقته وزاد تسامحه نحو النقد وكذلك كلما زاد تمكنه من مهنته وخلّف رصيداً منها في سجله كان النقد أهون عليه وطأة وكان له أكثر تقبلاً، وقد تعلمت ذلك في وقت مبكر من دراستي الجامعية إذا انتقد بعض الطلاب أستاذاً معيناً في تدريسه انتقاداً خفيفاً فتأثر تأثراً غير متوقع، وقد لفت ذلك انتباهي وحفزني للسؤال والبحث الذي قادني في النهاية إلى هذا الاستنتاج وقد علمت أيضاً ان هذا الأستاذ كان في بداية السلم ولو كان قد وصل إلى درجة الأساتذة المتمكنين من فنهم ولهم رصيد من الدراسات والمؤلفات في ميادينهم لما تأثر هذا التأثر، ومع الأسف اني قد غفلت عن هذا الأمر فلم انتبه له إلا مؤخراً، حيث بدأت أراقب سلوكي وسلوك الناس في هذه الناحية فأجد في كل مناسبة ان هذه النظرية صحيحة.
وقد لاحظت ان هذه النقطة لها علاقة فيمن يعتبره الناس محبوباً ومن يعتبرونه دون ذلك، فكل الناس يحبون من يرفع من معنوياتهم ويثني عليهم وأقرب طريق إلى قلوب الناس هو الثناء عليهم في دوائر كفاءاتهم رجالاً كانوا أو نساء، فمن الناس من تكون لديه موهبة من الله فيقوم بها دون تفكير، ومنهم من يقوم بها عن وعي وتخطيط والذي يقوم بها طبيعة هو أصدق وأكثر فعالية ويستحوذ على حب الناس الذين يغلون صحبته ويقدرونها، وأنا أعرف عدداً قليلاً من هؤلاء الناس واعتبرهم ومن كان في حكمهم عظماء بحق، نعم عظماء في مجالهم وإن كان صغيراً، وقد قال قائل ان من العظماء من يشعر المرء بحضرته انه صغير ولكن العظيم بحق هو من يشعر كل من بحضرته أنه عظيم، وقد لاحظت ان مثل هؤلاء الموهوبين إذا اضطرتهم الظروف ان ينتقدوا فإنهم يسلكون مسالك هينة لينة فتؤخذ نصيحتهم بصدر رحب وكأنها من أب أو أخ محب لهم رافع الكلفة بينه وبينهم، والسبب هو ان الإنسان إذا كان بحضرة إنسان يثق به فإن دفاعاته تسقط ومستهل إثارته السالبة يغور.
أما الذي يقوم بها عن وعي وتخطيط فعليه ان يعطيها بقدر محسوب ويتجنب المبالغة لأن المبالغة تفسد مفعولها، كما يجب ان يحسن النية ويكون صادقاً في مسعاه، وإلا انكشف في مواقع أخرى وأحس به الطرف الآخر المثنى عليه، فكل إنسان تقريباً قد مر عليه شخص في وقت من الأوقات أثنى عليه ودعا له وهو يدرك انه غير مخلص.. فمشاعر الإنسان الحقيقية ودوافعه تظهر في نبرة صوته وفي فلتات لسانه وتعبيرات وجهه وفي ميله في النهاية إلى الرجوع لأصله طال الوقت أو قصر، أما إذا صدق النية وأكثر من المران فإن الله سيعينه إن شاء الله.
أما أولئك الذين يهاجمون الناس في دوائر كفاءتهم فإما انهم يجهلون تأثير هذا النقد على الآخرين أو انهم يدرون ولكنهم لا يعبأون بتبعته، وهؤلاء يشعر الإنسان بالتحفظ في حضرتهم وتكون دفاعاته قائمة ومتى كانت دفاعات الإنسان قائمة نحو شخص معين فإنه ينفر منه ولا يحس بالأمان والاطمئنان في حضرته، ومجالات التحسين في النفس والسلوك قائمة ما دام الإنسان حياً والمهم هو الوعي بالأمر والرغبة فيه وصدق النية.. والله الموفق.
mwabel@hotmail.com
|
|
|
|
|