| منوعـات
اختارت بنت الشاطئ ..كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول - قسم اللغة العربية ، وكان ذلك حلمها.. منذ جلست على مقعدها الخشبي.. في كتاب - سيدنا - بدمياط ، ذلك أن اللغة العربية عشق فتاتنا منذ البداية ، مع أنها خطت خطواتها الأولى .. حين تركت الريف ، تبحث عن الصحافة قبل السعي الى الجامعة ، حيث أصبحت كاتبة في جريدة - الأهرام - وقد كانت تراسلها بخطابات .. تناقش موضوعات تعنى بالفلاحين ، لأنها تنتمي إليهم . غير أنها كانت توقع تلك الخطابات باسم - ابنة الشاطئ - خوفا من ثورة أبيها عليها.. وهو الذي سبق أن حال بينها وبين التعليم .. لولا تدخل جدها الذي فتح لها طريق أحلامها !
واصبح لها مكتب بجريدة الأهرام ، وكانت تنتقل بينها وبين الجامعة الشامخة وما تقدمه من معارف شتى.. وكانت طالبتنا سعيدة بما تحقق لها من سعي مرجعه طموحها الذي لا حدود له وكذلك يقود الطموح إلى ما لا نهاية له !
كان التحاق بنت الشاطئ بالجامعة .. في عام 1935م. وفي صيف 1936م بدأت العطلة الصيفية ، وقد أعلنت الجامعة النتائج الرسمية للامتحانات ، وكان للبرلمان يومئذ طلبة وفيه أغلبية ، لم يتحقق لهم نجح . وتدخل البرلمان في الجامعة ..لتهبط نسبة درجات النجح من 60% الى 50% وأصدر قانوناً لذلك . على أن يسري بأثر رجعي على نتائج الامتحانات التي أعلنتها الجامعة ، وتجاوز البرلمان حدوده القانونية .. حين رفض رسوب غير الناجحين ، وقضى الحزب الحاكم في البرلمان بنقض قرار الجامعة، ونقل الطلبة بما سمي قوة القانون من صف الراسبين إلى صف الناجحين . وغضبت بنت الشاطئ لهذا العدوان الصارخ - على حرمة الامتحان الجامعي - وفكرت في الخروج من الجامعة التي لم تستطع ان تحمي قراراتها.. غيرأنها آثرت الحسنى، لأنها ذات هدف وطموح لا تفضي إلى التوقف والهزيمة !
كانت بنت الشاطئ.. تسمع عن الأستاذ الكبير أمين الخولي ، وحدثها الطلاب عن علمه وثقافته، وأنه لا غنى لها عما عند الرجل من ثقافة .
وأخذت بنت الشاطئ مكانها في قاعة الدرس بالجامعة ، وجاء أستاذ الحصة الأستاذ أمين الخولي ..كما وصفته : «بسمته المهيب المتفرد ».وكان الدرس عن علوم القرآن ، وعلى الطلبة اختبار مباحثهم من خلال هذه المادة . واختارت الطالبة الفتاة البحث في «نزول القرآن ».
وعجب رفاقها من سرعة الاختيار. .في شيء من السخرية ، وسأل الأستاذ طلابه عن الوقت المحتاج إليه في انجاز بحث كل طالب .
وبادرت صاحبتنا معلنة في غير تردد ..أنها يكفيها يوم أول بعض يوم . وقال الأستاذ ما وصفته الطالبة - في نبرة اشفاق وتحذير: «كدا! فكري مليا، فربما بدا لك أنك في حاجة إلى مزيد من الوقت ».
لكن الطالبة ..أبت التراجع ، تقديرا منها أن المادة مهيأة في مصادرها الأصلية وهي في تناول يدها . وأنها لا تحتاج الى أكثر من بضع ساعات لتنجز بحثها ..بعد بضع ساعات للمراجعة !
وعرضت الطالبة على أستاذها بعض أسماء الكتب .. كالاتقان واللباب ، والبرهان ، وطبقات ابن سعد ، وتفسير ابن جرير .. إلخ ، فرد عليها بقوله : «كتاب واحد منها يكفي الآن ..لو أنك عرفت حقا كيف تقرئين »!.
وتقول الكاتبة :«وكان هذا آخرما توقعت أن أسمع ! ونراها تقول في شيء من اعتزاز وثقة : «أ لمثلي يقال ذلك ، وما من كتاب من أصول العربية والاسلام يعيبني أن أقرأه؟». غير أنها كبحت غضبها كما تقول ..وهي تلتمس لأستاذها العذر ..اعتقادا منه أنها كغيرها من الطلبة مستوى ، إذ إن فيهم من لا يعرف كيف يقرأ . ومع ذلك أكد لها أستاذها ..أنها - لو أدركت الفرق بين المصادر والمراجع ..لما تورطت في مثل هذا السؤال المنكر..وذلك حين أعلنت إليه أن الكتب التي ذكرتها له قد قرأتها واستوعبت ما فيها . واعترفت بأنها لم تفكر في التمييز بين المصدر والمرجع !
وبعد ذلك حرصت أن تظل تستمع مصغية لكل ما يقول وتتعلم . حتى أنها ودت - لو يتوقف الزمن - ، فلا تدق ساعة الجامعة معلنة انتهاء المحاضرة. وتعلن الكاتبة الطالبة - يومئذ أنها منذ ذلك اللقاء الأول ارتبطت - به نفسيا وعقليا -وقالت :«وكأني قطعت العمر كله أبحث عنه في متاهة الدنيا وخضم المجهول »! وتعلن في شجاعة : «وقد انصرفت من درسه الأول في اليوم السادس من نوفمبر 1936م وأنا أحس أني ولدت من جديد»! وتعترف الكاتبة أنها حين وقفت بعد أسبوع تؤدي أمامه امتحانها الأول .. لم تمكث سوى دقائق معدودات ، حين أدركت أن حصيلتها من كنز الثقافة الاسلامية .. التي ظنت أنها نالته ..لاتعدو - القشور والأصداف -، وأنها بعيدة عن الذخائر المكنونة . وقررت أن تعود إلى قراءة مجددة في كتب التراث ، وقد كانت تظن أنها نالت منها مبتغاها . حيث استأنفت تقرأ في أناة وريث . وكانت من قبل تتم قراءة كتاب في أمسية واحدة !
|
|
|
|
|