| شرفات
رغم قلة أعماله,, إلا أنها تبدو دائماً منشطة لغدد النقد العربي، مابين مستفز ومؤيد ونتذكر جميعاً ردة فعل الراحل يحيى حقي على أولى رواياته تلك الرائحة قبل 36 عاماً فمع كل عمل له يكشف عن قلم يُصر على اختراق حقول الألغام,, وكما فعلها في تلك الرائحة ,, فعلها في اللجنة ونجمة أغسطس وبيروت,, بيروت وذات وشرف وأخيراً وردة التي عاد فيها إلى ستينيات منطقة الخليج,,, وكأنه يؤرخ لذاكرة تريد الإفلات منا.
وتتنوع تجارب صنع الله ابراهيم الابداعية مابين الرواية والترجمة,, أبرزها التجربة الأنثوية 1994 والكتابة التسجيلية منها إنسان السد العالي والقاهرة ,, من حافة إلى حافة 2000، وللأطفال ,, يوم عادت الملكة والحياة والموت في بحر ملون وعندما جلست العنكبوت تنتظر والدولفين يأتى عند الغروب ورحلة السندباد الثامنة الصادرة عام 1990, غير أن كثيرين لايعلمون ان لصنع الله تجربة لها قيمتها في السينما،إذ لعب بطولة فيلم التخرج للسوري محمد ملص تمام يافندم ، كما شاركه في كتابة عدة سيناريوهات منها القرامطة والأبله اللذان لم ينفذا حتى الآن، وهناك شبه اتفاق على ان يُخرج ملص رواية صنع الله الأخيرة وردة .
في أول نوفمبر الماضي نظم المركز الثقافي الإيطالي مواجهة بين صنع ونظيره الايطالي دانيال ديل جوديتشه ، وكما كتابات صنع دخلت المواجهة في تخوم السياسة بمفهومها الضيق، والتهبت القاعة بمناقشات عن انحياز الغرب وعنصريته,, والموقف من مذابح فلسطين,, ومفهوم الديمقراطية، وفي محاولة منا للهرب من تخوم السياسة ولو إلى حين سألناه عن حكاية اسمه,, فقال:
أنجبني والدي وهو في الستين من عمره، ويبدو أنه لم يتوقع الانجاب في مثل سنه,, فضلاً عن كون المولود ذكرا ولأنه حريص على المظاهر الدينية، وعلى سبيل الاستخارة قرر أن يختار اسمي من القرآن الكريم، وفتح المصحف,, ثم وضع اصبعه على آية وعيناه مغمضتان,, ثم فتحهما وقرأ الآية الكريمة صنع الله الذي أتقن كل شيء ,, هكذا جاء اسمي.
* وكيف أتت علاقتك بالسينما؟
البداية مثل بداية كل المراهقين والشباب عبر سينمات الدرجة الثالثة بالأحياء الشعبية، وكنت ومازلت حتى الآن مفتوناً بالأفلام المأخوذة عن أعمال هيتشكوك ، المهم أنني في نهاية الستينيات وبينما اتنقل بين الكتابة والصحافة في وكالة الأنباء الألمانية الشرقية ، خطر لي ان أفضل وسيلة للتعبير عن الحقيقة هي السينما، وعن طريق منظمة التضامن الأفروآسيوية حصلت على منحة لدراسة الإخراج بمعهد السينما في موسكو والذي كان يضم وقتها نخبة ضخمة من الطلبة العرب وطلبة دول العالم الثالث, كانت صورة المخرج في ذهني انه سيد العمل ,, محاط دائماً بهالة صاحب الرؤية ، فتقدمت لقسم الإخراج الروائي بالمعهد بعد أن دربني طالب من كولومبيا على التمثيل، واخترت مشهدا لسجين سياسي خاصة وأنني عشت تجربة الاعتقال أكثر من خمس سنوات، كانت لجنة الاختبار تضم 12 سينمائياً كبيراً، سألوني عن كبر سني (الأربعين) وعن مبررات اتجاهي للاخراج، وعندما مثلت المشهد المختار,, بدا لي انني أرقص، ولأنهم شاهدوا معي نسخة انجليزية من تلك الرائحة ، اقترحوا عليَّ دراسة السيناريو.
* كان لهذه التجربة أثرها في كتاباتك؟
نعم,, أوحت لي برواية اللجنة ,, بأجوائها الكوميدية السوداء، المهم انني فشلت في الامتحان، ومع ذلك رشحوني لبرنامج دراسات حرة لمدة عامين مصور مؤلف ، وكان عليّ في العام الأول ان أحمل الكاميرا لأتدرب على التصوير والتحميض، وبالطبع,, وللهزال الشديد في جسدي أرهقتني التجربة بدنياً، غير أنني استفدت منها في مشاهدة كلاسيكيات السينما رأرشيف المعهد,, واستغللت العامين في انهاء رواية نجمة اغسطس ، وفي هذه الفترة تعرفت بمحمد ملص وسمير ذكرى وهيثم حقي، ولأن ملص كان الأكثر اهتماماً بالأدب تصادقنا وتعاونا في مشروع تخرجه تمام يافندم ,, كتبت له السيناريو وعملت مساعداً للاخراج كما مثلت الشخصية الرئيسية,, كمسجون سياسي أثناء حرب 1967، وأشرفت على بناء ديكور السجن,, واخترت الموسيقى وهي مقطوعة نزهة ايطالية لتشايكوفسكي,, لأن بها لحنا يجمع بين اللطف والشجن.
* وأحلام الإخراج؟
بعد انتهاء الفيلم اقتنعت أنني لا أصلح مخرجاً,, فلن أستطيع تحمل قيادة مجموعة كبيرة تعمل في العناصر المختلفة الصانعة للفيلم السينمائي، فأنا أحب أن أجلس في غرفتي بحرية,, وأكتب، فقط شاركت في كتابة عدة سيناريوهات مع محمد ملص وعمر أميرالاي,, منها الأبله والقرامطة .
* وأخذت من السينما,, الرغبة في الإمساك بالذاكرة,, والتوثيق كما في كل أعمالك التالية بيروت,, بيروت ، ذات ، شرف ، وردة ؟
البداية تعود إلى مراهقتي، كنت أحب أن أكوّن أرشيفاً لنفسي ,, ضم وقتها أغاني وصور الممثلات، وتدريجياً دخلت الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كنت أقتطع من الجرائد ما أراه هاماً,, ومع تبلور وعيي دخلت الدراسات والوقائع أرشيفي.
والأرشيف الآن يعطيك الإحساس أنك فعلياً تمسك بقطعة من الواقع وتضفرها في كتابتك,, قطعةتضم أحداث وسلوك ومواقف.
* لم تجب عن سؤالي,, هل تضفير الوثائق باختلاف أنواعها من تأثيرات السينما؟
من الصعب أن أجيبك بلا أو نعم، لأن هناك من سبقني في هذا المجال، فقد أدخل الراحل غالب هلسا عناصر من الإعلان والأغاني والنكت في روايته الضحك ، وضمن صلاح عيسى روايته الوحيدة شهادات من زماننا مقتطفات من الصحف والعديد من الصور, وأكمل غالب تجربته مع روايته الخماسين التي ضمنها أناسا حقيقيين بأسمائهم وتجربتهم الكاملة.
* تماماً كما أوردت أسماء حقيقية في وردة ؟
نعم,, وفي وردة تحديداً أستعنت بفيلم تسجيلي عن الثوار للامساك بتفاصيل حياتهم، وفي وردة ستجد أسماء احتلت ومازالت تحتل بؤرة الضوء في الخليج وفي وطننا العربي, ووردة تختلف تماماً عن أول تجاربي مع التوثيق في بيروت ,, بيروت التي اعتمدت فيها على وثائق وكتابات لرؤوف مسعد,, خاصة صباح الخير ياوطن ,, لأنه عاش تجربة الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الصهيوني للبنان.
* البعض يأخذ عليك احتلال السياسة بمعناها الضيق الجانب الأكبر من فضاء أعمالك؟
ولماذا يريدون أن يبعدونا عنها، أليست السياسة بمعناها الواسع تشمل كل شيء في حياتنا وتؤثر على كل تفصيلة فيها,, من نظافة الشوارع إلى قرارات إعلان الحرب؟
الغريب ان العديد من المستشرقين والصحفيين الأجانب يلحون على هذا التساؤل ويطالبوننا بالخروج من دائرة السياسة، وكنت أضحك من الحاحهم لأن الخروج من دائرة الهموم الوطنية والقومية يعني ان نعيش كما الأغنام,, وبالطبع كل هذا لصالح الغرب.
* ألم تفكر في كتابة رواية حب,, مثلا؟
ياسيدي أنا مرتاح في هذه المنطقة,, البعض مثلا جلس على فترة المماليك ويراها مناسبة لكتاباته، والبعض الآخر غرق في القصص العاطفية، لكن حتى القصص العاطفية لا نستطيع عزلها عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بها والمؤثرة فيها, ثم انني لست وحدي المهتم بتداخل الفضاء السياسي بالاجتماعي بالاقتصادي ,, فهناك أسماء بارزة منها جميل عطية ابراهيم وبهاء طاهر وفتحي امبابي وغيرهم، ممن يشعرون أن ما حولنا من الضخامة والبشاعة بحيث يدفعنا للاشتباك معه، وان نتناسى إلى حين تجاربنا الذاتية الضيقة.
* أحد همومك كان الجيل القادم,, كتبت له خمسة مؤلفات، ومنذ 1990 لم نقرأ لك عملاً للأطفال؟
هذا طبيعي، لأنك لا تستطيع عزل آليات الكتابة للأطفال عن مشاكل النشر، فكتاباتي لهم انشغلت دائماً بالمزج بين المعرفة من جانب والحسّين الوطني والقومي من جانب ثان، ومن جانب ثالث الحرص على درجة ما من الاتقان الفني والجمالي، ومنذ عدة سنوات ومعظم جهات الانتاج الفني والثقافي تنشغل في الدرجة الأولى بهاجس أكبر ربح ممكن ، دون أن تهتم بمصلحة الطفل العربي أو بمصلحة وطنه,, باعتباره مستقبل هذا الوطن,, وأنا لا يمكنني العمل في هذا السياق.
عمر محمد
|
|
|
|
|