| شرفات
دازاي واحد من ألمع كتاب اليابان فيما بين الحربين, عاش عمره القصير وهو يحاول ان يمسك الخيط الرفيع والمشتعل بين جنون الحياة وجنون الكتابة,, معجمه اليومي هو الفقر,, الألم,, الدموع,, المورفين,, نساء عابرات,, ثم اوراق بيضاء يسطر عليها اصداء سيرته الذاتية، الحقة والمتخيلة، الخفية والآثمة,, يلملم شظاياها في رواية او قصة تعبر بإخلاص عن ازمة جيل,, جيل هيروشيما ونجازاكي.
في 19 حزيران وبإحدى قرى ولاية آوموري ولد دازاي، الابن الثامن لآل توشيما وهم من الملاك الأثرياء في الولاية,, في سنواته الأولى عاش في كنف مرضعته الخاصة ثم في رعاية احدى عماته، وفي دراسته كان يتصرف كتلميذ متفوق من اسرة مرموقة، وحتى بعد وفاة ابيه وهو على اعتاب المرحلة الثانوية، حافظ على تفوقه كما بدأ يكتب القصص الأدبية وينشرها في مجلات الطلبة.
وفي عام 1927م حدث التغير الجذري والمأساوي في حياة دازاي حين علم بانتحار كاتبه المفضل أكوتا غاوا كان امراً مروعاً جعله يهمل الدراسة بل يهمل الكتابة ايضا! وخرج الى الشارع يبحث عن اللهو والمتع حيثما كانت!! وغداة امتحان السنة وهربا من المواجهة قرر ان ينتحر كما انتحر كاتبه المفضل، وابتلع كمية كبيرة من الكالموتين وهو منوم كان يستخدمه بشكل منتظم .
وعن محاولة انتحاره الاولى يقول دازاي: كنت طالبا عمره 19 سنة، وفي الصف أتدثر بعزلة هائلة، كنت اعتقد ان لاشيء يمكن فعله الا الموت,, لكن الموت لم يأت اما محاولة انتحاره الثانية فكانت عقب طرده من العائلة علنا وبشكل رسمي, آنذاك اقام دازاي علاقة مع فتاة صغيرة من مواطني ولايته آوموري وتدعى هاتسويو التقى بها وهي في بداية طريق الانحراف ثم هربت اليه ووصلت الى طوكيو فيما بعد، وبسبب هذه العلاقة المشينة تبرأت الاسرة منه علنا، فقرر ان ينتحر.
من الطريف، والمؤسف أيضاً، انه كان على علاقة بفتاة اخرى تدعى شيميكو وكانت عاملة ومتزوجة، وتبلغ من العمر تسعة عشر عاما، التقى بها، وبعد عدة ايام ولقاءات اتفقا على ان ينتحرا معا وبنفس طريقته السابقة تناول الكالموتين وفي صباح اليوم التالي عثر عليهما فوق الصخور قرب البحر, كانت المسكينة شيميكو قد فارقت الحياة اما دازاي فلا,, او على حد تعبيره لكن الموت لم يأت !
استدعته الشرطة واستجوبته طويلاً لولا تدخل اسرته التي اوقفت ملاحقة الشرطة له,, ووقع اخوه الاكبر عقداً معه، يتقاضى بموجبه من 120 يناً شهرياً خلال سنتين، بشرط: الا يترك المدرسة، الا يوقفه البوليس، الا يبذر النقود، ان يوقف كل علاقة مع الحركات الاشتراكية، ان يتجنب التصرفات الفضائحية.
كان دازاي قد تزوج من هاتسيو واستقر عاطفيا الى حد ما، لكنه لم يستطع ان يقطع علاقته بالحزب الاشتراكي غير القانوني آنذاك, كان يشارك في انشطته ويساهم ماديا، بل جعل بيته مكتب اتصال للحزب، الى ان قبض عليه ذات ليلة بسبب نشاطه السياسي.
عاش فترة مضطربة، واختبأ حيناً من الدهر في احد البيوت باسم مستعار، وفي المقابل منع عنه اخوه الأكبر الراتب المقرر له، الى ان هدأت الاحوال فعرض عليه ان يستأجر له بيتا جديدا، في مقابل ان يتابع دراسته وان يتعهد لشرطة المحافظة بعدم ممارسة اي نشاط سياسي.
بالفعل تعهد للشرطة لكنه لم يستطع ان يفي بالشق الأول من الاتفاق، وأحس ان فرصة النجاح في الدراسة معدومة، فطلب ان يعمل في احدى الجرائد بطوكيو لكن دون فائدة, وذات مساء، خرج في نوبة يأس مع احد اصدقائه بعد ان سحب جميع مدخراته من البنك، وحين فارقه هذا الصديق اكمل السير وحده حتى وصل الى الجبل قرب كاما كورا وهناك قرر ان يواجه الفشل بطريقته المعتادة,, الانتحار للمرة الثالثة!!
للأسف انقطع الحبل، وربما لم يجد الشجاعة، فعاد حزينا الى طوكيو ليجد قلق الزوجة والأصدقاء بسبب اختفائه المفاجئ، وسرعان ما جاء اخوه الأكبر بعد وصول برقية تعلن اختفاءه، وكان لدازاي صديق امين يدعى ايبوسي طلب من اخيه الأكبر ان يدفع له معاش سنة اخرى, لكن وفي أقل من ثلاثة اسابيع على محاولة الانتحار الثالثة، اصيب دازاي بالتهاب حاد في الزائدة ودخل الى المستشفى للعلاج، ونظراً لتدهور حالته مكث بالمستشفى ثلاثة اشهر، تعرف خلالها على البابينال احد انواع المورفين وكأنه دخل الى المستشفى مصاباً بالتهاب الزائدة وخرج مدمناً للمورفين!
وفي عامي 19351936 رُشح دازاي أكثر من مرة لإحدى الجوائز الأدبية المرموقة لكنها حجبت عنه، وصرح احد اعضاء لجنة التحكيم قائلاً: اعتقد ان غيوم الفضائح المعلقة فوق حياة دازاي الخاصة تضر بعبقريته! وحين حجبت عنه الجائزة للمرة الثانية اشتعل غضب دازاي وهاجم اللجنة بشدة، فرد عليه احد الأعضاء رداً قاسياً ووصفه بأنه كائن هذياني مجنون ومدمن مخدرات!
ساءت حالته اكثر ودخل الى احدى مصحات الإدمان للعلاج لكنه فر بعد ليلتين وامام تدهور قواه الجسدية والنفسية استدعت زوجته هاتسيو صديقه المخلص ايبوسي كي يقنعه بدخول احدى المصحات النفسية, وفي السابع من اكتوبر عام 1936 قضى دازاي ليلته الاولى بالمصحة، كان يكسر زجاج الغرفة، ويكتب على الجدران ويصرخ ويهاجم الممرضات وتم منع الزيارة نهائيا.
في تلك الفترة توسط صديقه إيبوسي لدى اخيه الأكبر كي يتابع رعايته المادية ثلاث سنوات اخرى، وبعد عدة اسابيع في المصحة يخرج دازاي ليواجه الحياة متخاذلاً كما هو!! لقد وجد في استقباله اعترافاً مثيراً من النوع المضحك المبكي، فأحد اصدقائه يعترف له بأنه اقام علاقة مع زوجته أثناء وجوده بالمصحة! وبدلاً من الشجار والعنف ووجع الدماغ أقنع زوجته ان ينتحرا معاً وبنفس الطريقة القديمة تناول الكالموتين وللأسف فشلت المحاولة فاكتفى دازاي بالطلاق.
كان صديقه المخلص ايبوسي يخشى عليه من النكوص، فنصحه ان يعتزل الناس على جبال ميساكا ويتفرغ للكتابة، ومن ناحية اخرى كان مصمما على ايجاد زوجة جديدة له, وفي عام 1939م تزوج دازاي للمرة الثانية من شابة صغيرة تدعى ستيشيكو عاش معها فترة هادئة نسبياً رغم اشتعال الحرب العالمية الثانية، وانجب منها بنتاً وولداً، فيما يشبه الرغبة في تكوين اسرة! لكن طلائع القصف الجوي انهمرت، ودمر بيت دازاي اكثر من مرة فهرب باسرته من مكان الى آخر حتى استقر في مسقط رأسه، بينما كانت القنبلة الذرية تدمر هيروشيما ونجازاكي وامبراطور اليابان هيرو هيتو يعلن الاستسلام للحلفاء,وفي عام 1946 بعد ان هدأت الاحوال نسبياً تعرف دازاي على امرأتين جديدتين,,, أوتا التي ألهمته روايته الشهيرة الشمس الغاربة وتومي الارملة الشابة التي عاشت معه كممرضة وسكرتيره وانجبت له ابنته سانوكو وهي كاتبة شهيرة الآن,وبعد ان كتب دازاي رائعته سقوط انسان قضى ايامه الاخيرة وهو يسعل ويبصق دما ويعبث اكثر من اي وقت مضى، ثم يقضي الليل يغالب الاسى والارق، الى ان قرر بمنتهى الرومانسية او بمنتهى المأساوية ان ينتحر انتحاراً حقيقياً هذه المرة.
في الثالث عشر من مايو 1948م خرج دازاي مع تومي كصديق وصديقة، او كعروسين,, وامام مياه قناة تاما,, غاوا وقفا بضع لحظات يتأملان شيئاً ما ثم قفزا والقيا بنفسيهما حيث لايدريان,, وبعد خمسة اسابيع وفي يوم عيد ميلاده 19/6 عثرت الشرطة على الجثتين,أخيراً نجح دازاي أوسامو في ان ينتحر!
شريف صالح
|
|
|
|
|