أعتقد ان موضوع هذا المقال واضح من عنوانه ولمن جرب الموت قعوداً,, متقاعد كلمة تقع كالصاعقة على بعض آبائنا حين يأتي البشر بها,, وما أن يفيق من هو لها حتى تبدأ معاناته مع الحياة من جديد وكأنه لأول مرة يكتشفها ويعاصرها أو كأن غشاوة على عينيه زالت ليراها من جديد,, فجأة يجد نفسه يعيش فراغاً كبيراً لا يعرف كيف يتعامل معه متزامناً مع صحة متهالكة، وأولاد طار كل منهم إلى عشه وزوجة مشغولة بمتابعة أولادها.
وهنا أريد أن أنقل بعض الصور لمتقاعدين يحاول كل منهم أن يشغل فراغه وأعتقد أن كل واحد منهم يجزم ان طريقته هي الصحيحة.
أحدهم بعد التقاعد فضل المكوث في البيت فصار كالحارس والمراقب على كل صغيرة وكبيرة ويوماً بعد يوم يكتشف أسراراً في بيته لم يكن يعرفها من قبل,, ثم يبدأ بالتدخل بكل شاردة وواردة,, وغالباً ما يصب اللوم والأخطاء على الأم المسكينة التي هي أكثر شخص في البيت يتحمل أعباء ومشاكل وتبعات هذا المتقاعد الذي لا يأبه أبداً بمعاقبتها وعنادها والتدخل بكل شؤونها ويجعلها متنفساً لغضبه من أي شيء حتى تبدأ المسكينة بالتهرب منه ومداراته والتعامل معه كما تتعامل مع أحد أطفالها الصغار بالتسويف والمماطلة,, ويصل هذا المتقاعد إلى مرحلة ان كل من في البيت يشتكي منه,, الأم الابن البنت الخادمة السائق وحتى جاره وجماعة المسجد لا يسلمون منه.
المتقاعد الآخر الذي تفرغ لأعماله الحرة,, فلم يعد أهل بيته يرونه فقد زادت أعماله وتجارته وكأن خبر التقاعد كان بشرى امتداد حياته مائة سنة قادمة فزاد طمعه,, لقد فقده أهله وضاع لجام بيته.
هنا متقاعد حن لبداوة ما قبل الوظيفة وحين جاءت فرصته طار هارباً من قفص الوظيفة والمدينة فصار يجوب الديار والصحراء فيغيب عن بيته بالأشهر حتى ان أهله لا يعلمون فوق أي أرض هو وتحت أي سماء.
الآخر أراد أن يرضي غرور الكرم الذي في نفسه,, ففوراً جهز بيت الشعر الذي لا يرى آخره في فناء بيته ووضع فيه أفخم وأجود أنواع الدلال وأطيب أصناف القهوة وفتح باب بيته على مصراعيه لاستقبال الضيوف من كل حدب وصوب وصار بيته مضيفاً لا يغلق بابه أبداً,.
وهذا المتقاعد وضع شقاء عمره وكل ما جمع من مال في تلك الأرض الصحراوية الميتة,, ويبدأ المشوار بحفر الآبار التي لا ماء فيها ثم وضع الأشجار التي لا تثمر إلا بعد عشرات السنين,, ثم يشتكي جاره أو جاره يشتكيه على أتفه الأسباب لتبدأ قصة النهاية في المحاكم,, فحرم أولاده وأقاربه ونفسه من ماله ووقته في أرض يتمثل الجوع فيها حين تراها,.
الآخر بدأ رحلة البحث عن وظيفة أخرى حتى ولو كانت هامشية أو ذات راتب قليل,, المهم انه يرجع إلى روتينه باحثاً عن التعب والشقاء بالرغم من أن أولاده قد وفروا له كل ما يريد,.
وهنا متقاعد آخر بدأ البحث ولكن عن شيء آخر,, بدأ البحث عن زوجة جديدة,, فيصر على أولاده أن يزوجوه مهما كان الثمن وفي النهاية لا يجد ضالته إلا في الخارج لأن شروطه صعبة,, الشباب أنفسهم لم يشترطوها,, ثم يتزوج وبعد سنة أو سنتين يتم الطلاق لنفاد ماله أو صحته,.
أما هذا المتقاعد ففضل أن يكون أنيسه صلاته ورفيقه مصحفه ومكان راحته مسجده,, فتفرغ للعبادة والتقرب إلى ربه,.
وهذا ترك الدنيا والآخرة وجلس في بيته,, لا يتدخل في شؤون أحد ولا أحد يتدخل في شؤونه,, لا يعمل لا يختلط لا يقرأ لا يكتب لا يأمر لا ينهى,, وكأنه ينتظر موته,.
أما المتقاعد القارئ الذي تفرغ للقراءة وكأنه عطشان وجد ماء محروماً منه طوال حياته الوظيفية فأخذ ينهل من بحور العلم والمعرفة ويرضي نفسه ويروي عطشه,.
النموذج الأخير الذي صار جوازه الأخضر هو رفيقه,, فكل شهر في دولة يجوب الأرض بالترحال والسفر والسياحة منفداً ماله ووقته.
هذه بعض الصور التي حاولت أن أجسدها في هذه العجالة,, لكي أقول ان هذه المرحلة من العمر لها من الأهمية ما يضاهي أهمية المراهقة وتأثيرها على حياة كل شخص,, خصوصاً انها مصير كل واحد يمد الله في عمره ليصلها,, فلذلك يجب على كل متقاعد أو على وشك التقاعد وهم شريحة كثيرة جداً أن يخططوا جيداً لها وأن يدرسوا بشكل مستفيض ما سيفعلونه بتلك الأوقات الطويلة التي ربما يتخللها المرض والوهن والشيخوخة,, ويبقى السؤال قائماً بلا اجابة ما هو الحل الأمثل لهؤلاء الميتين قعوداً؟!
عبدالعزيز النخيلان الشمري
|