| مقـالات
* انطلق قطار (السعودة) في عموم المملكة، وهو يرفع شعار التوطين للوظائف والأعمال والمهن، بدأت الرحلة الشاقة منذ أعوام قليلة، لكن لا أحد ينكر أنها بدأت متأخرة بعض الشيء، وأنها حملت من المشاعر والعواطف والأمنيات والحماس ما يفوق الطاقة, وهذا ليس عيباً بطبيعة الحال، ولكن يحق لنا ان نجس خطى قطارنا في رحلته هذه، هل هي ثابتة أم متعثرة,,؟ هل سوف يقودنا في هذه الرحلة إلى النهاية بسلام,,؟ أم أن هناك عقبات تتربص به وبنا على الطريق,,؟
* إنها رحلة شاقة حقاً,, خُطاها ليست على وتيرة واحدة، ففيها شيء من التعجل، وفيها شيء من التخجل,, فهل نصل كما نريد ونحن بين خطى وخطى,,؟!
* إن المسارعة في الانطلاق بهذه الرحلة، جاءت بعد ضغوط كبيرة، فرضتها الحاجة الوطنية الماسة لتوفير الفرص الوظيفية والعملية والمهنية لأبناء الوطن، الذين هم بدون أدنى شك أحق الناس بهذه الفرصة على ترابهم الوطني، بين أهليهم وذويهم، إذ ليس من المنطق ولا من المعقول، ان يأتي آخرون من بلاد قريبة أو بعيدة، ثم يتربعون على كراسٍ وظيفية ومهنية، ويبقى أبناء البلاد اجراء عندهم، أو يتسكعون في الشوارع والأسواق، بلا عمل أو مصدر رزق يؤمن لهم حياتهم ومستقبل أيامهم، أو يضطر البعض منهم، للبحث عن فرص عمل في بلاد غير بلادهم.
* هذا هو الهدف الأساس من (سعودة) الوظائف والاعمال في المملكة، وقد جاء في غاية الوضوح والشفافية منذ البداية، وذلك على شكل برنامج وطني ترعاه الدولة، فهي الجهة التي من حقها مراعاة مصلحة أبنائها، وتفضيل هذه المصلحة على سواها، ولم يكن هناك مجال ما، لتصوير هذا الموقف على أنه تضييق على العمالة الوافدة، حتى ولو حاول (بعضهم)، انتهاج هذا الطرح غير المنطقي، إما للنيل من الفكرة ذاتها، أو لحاجة في نفس يعقوب,,,! فالعمالة الوافدة، هي في واقع الأمر، حالة ظرفية طارئة على مجتمع مقيم ومستقر على الدوام، والوافد عادة، يعيش حياة مؤقتة، وعينه على بلده وأهله وساعة المغادرة بالبر أو البحر أو الجو، ويبقى للبلاد وأهلها ومستقبلها، أبناؤها, والبئر مثلما يقولون لا يبني فيها إلا حصاها.
* إن رحلة السعودة هذه، سوف تؤتي ثمارها في المستقبل، وسوف يأتي اليوم الذي نرى فيه أبناء هذه البلاد، يحتلون مواقعهم الطبيعية في بلادهم، وعلى كامل ترابهم الوطني، ليس المواقع الوظيفية في الادارات والمؤسسات فحسب، وإنما المواقع المهنية والحرفية الدقيقة، التي تتطلب تنازلا من شباب اليوم، وتحتاج إلى مزيد الاحترام من المجتمع، وإذا لم نفعل ذلك بفهم ووعي وشجاعة في يومنا هذا، فسوف نظل إلى ابد الآبدين، نأكل ونشرب ونلبس من أيدي غيرنا, وهذا كلام أقوله لشباب هذه البلاد، الذين يجأرون بالشكوى ليل نهار، ويبدون من الضيق الذي يجدونه في المساحة المتاحة في ميادين التوظيف والأعمال ما هو كثير، ولا أعفي الجهات ولا المؤسسات، حكومية كانت أو غيرها، تلك التي وُكِل إليها أمر الإعداد والتدريب والتأهيل منذ زمن طويل، من مسؤولية الحالة الحاضرة التي نحن فيها، ولنا كلام على هذا في المقال القادم إن شاء الله.
* إن قضية توطين الوظائف والأعمال، تتمحور اليوم، حول اكثر من قطب رئيس في هذه المسألة، له شأن لا يستهان به في حل العقدة أو تمتين ربطها، ويأتي في المقدمة، طالبو الفرص الوظيفية أنفسهم، ثم سوق العمل عامّاً كان أو خاصّاً، وأيضاً، الجهات التنظيمية والتنفيذية في البلاد.
* إن التجربة التي نخوضها ميدانياً يشوبها بعض الشكوك، وتنتابها اتهامات متبادلة بين طالبي العمل والقطاع العام على وجه خاص، فالشكوك تتناول الجانب التطبيقي للتجربة,, تنجح أو لا تنجح، والاتهامات لا تتوقف عند حد عزوف ارباب العمل عن تشغيل (الوطني)، بناء على قناعات ومعادلات سابقة، أساسها في اعتقادي، الشك في مدى القدرة على العطاء والانتاجية من جانب (الوطني)، والتذكير بتجارب فاشلة مع وطنيين غير جادين، وغير منتجين، يبحثون عن وظائف للوجاهة فقط، مقابل آخر، (غير وطني),, لكنه عملي ومنتج، وظاهرة التفضيل هذه في أسواق العمل، يسوقها الموظف والعامل (الوطني)، بشيء من الحنق والتشكيك في وطنية أرباب العمل,,! أولئك الذين يفضلون (غير الوطني) على (الوطني),,! لأسباب، مازال هذا الإنسان (الوطني)، المحتاج للعمل، غير مقتنع بها، أو أنه يرفض أن يوصم بها وأن تكون من صفاته، ولكن,, كيف يتخلص منها وهي في كثير من الاحيان، جزء من تركيبته الاجتماعية والنفسية والعملية,,؟، بعيداً عن شعار الوطن ومشاعر الوطنية,,,؟!
* إنها مسألة تتعلق بثقة معدومة بين طرفين وطنيين، طالب وظيفة (وطني)، وما (يفترض) انه موفر لفرصة وظيفية (وطني).
* عندما بدأ العمل بتطبيق سعودة أسواق الخضار والفواكه في عموم المملكة، فرحت كثيرا بهذا الاجراء فقد كنت من أوائل المنادين به، ولأن فرصاً جيدة سوف توفر لكثير من المواطنين المحتاجين فعلا للعمل والكسب والعيش في وطنهم وبين اهليهم، خاصة اولئك الذين يأتون من القرى والبوادي والهجر، مدفوعين بشظف الحياة وضيق العيش، فيقفون مكتوفي الايدي، وهم يبحلقون في عمالة وافدة تدير محلات للبيع بنشاط وهمة واقتدار، فتبيع وتشتري وتكسب عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الريالات، وليس لهؤلاء الغُبر السمر القادمين من خارج حدود المدن من نصيب في هذه الأمكنة والمحلات، سوى البحلقة، أو دفع عربات حمل بضائع بريالات بسيطة، حتى الأخيرة هذه، وُجد من صبيان وأبناء الأفغان، من ينافسهم فيها، فيغلبهم ويبعدهم عنها,,,!
* كنت أتردد على محل يديره عامل آسيوي، هذا العامل لا يفوته شيء من بضاعة يحتاجها عميل له, فهو يوفر كل ما قد يخطر على بال كل مشتر منه, كان المكان نظيفاً ومرتباً، والقائم عليه في شكل جيد، ويقابل الجميع بالابتسام والترحاب، ويكتفي بربح معقول لبضاعة دائماً تكون في حالة جيدة وجديدة في نفس الوقت، فهي نضرة ونظيفة ومعروضة بشكل مغرٍ,,, ثم,, بعد التحول إلى العامل (الوطني)، حرصت على ارتياد المكان نفسه، ومنذ اليوم الاول، وقف في مكان الواحد، ثلاثة وطنيين، عندما رأيت ذلك، سررت كثيراً لهذا المشهد، إذن,,, هنا ثلاثة وطنيين احتلوا مكاناً واحداً، أب وابنان له,, لكن الشيء غير السار، ان المحل انقلب رأساً على عقب، فلم يعد نظيفاً، والبضاعة ضامرة وبائتة، والعرض غير مشجع، والهمة والنشاط التي عهدتها في العامل (غير الوطني)، تحولت إلى خمول وجلوس على الكراسي عند الوطنيين الثلاثة,,! والمقابلة فاترة، والخدمة متثاقلة متباطئة,, أما المفاجأة، فكانت حول الأسعار والقيمة التي وضعها الوطنيون الثلاثة للبضائع، صحيح أننا شهدنا ارتفاعاً ملحوظا في الاسعار بعد (السعودة)، برره لي شخصياً، أحد الباعة الوطنيين بقوله: (زمان البنغالي ولى,, اليوم سعودة),,؟! إلا أن الأب وابنيه، كشفا لي جزءاً من مأساة (المواطن السعودي)، الذي يدعي الغبن والمزاحمة، حتى إذا تولى وتقوّى، طغى وتجبر,,,! وإليكم الحكاية مثلما حدثت معي تماماً: كنت أشتري كرتون البطاطا من هذا المكان قبل (السعودة)، بعشرة ريالات، وفي بعض الاحيان بتسعة وبثمانية، بعد (السعودة)، سألت الأب عن السعر سعر كرتون البطاطا وكان يقف بجانبي, قال: بخمسة وعشرين ريالا,,! يا للهول,,,! وقفت مذهولا من الصدمة, وفي الحال، اسرع نحوي ابنه الأصغر وقال: بخمسة عشر يا أستاذ,,! وفي التو، جاء الابن الأكبر من الطرف الآخر للمحل وقال: باثني عشر ريالا,,!
* قلت وأنا أغادر المحل بدون رجعة: من أصدّق,,؟ وكيف أصدّق,,؟ وماذا أصدّق,,؟ لا حول ولا قوة إلا بالله, لاشك أنها صور متداخلة، فيها جهل وجبروت وتسلط، حتى في سوق الخضار والفاكهة يظلم بعضنا بعضاً,,!
* الكلام لا يقف عند حد تطبيق التجربة في أسواق الخضار والفواكه وحدها، ولكنه يتسع ليشمل كافة الميادين، وفي جميعها من الصور السلبية، ما يستحق الذكر والدراسة والاعتبار, وفي المجالس والمنتديات، نسمع الكثير مما يغم، ويعزز الشكوك في كفاءة (الوطني)، وفي مقدرته على ملء الفراغ وتحقيق الانتاجية المطلوبة، فموظف (وطني) في قطاع خاص، لا يباشر عمله قبل الساعة التاسعة,,! ويرى من حقه السهر حتى الفجر، في لعب البلوت ومتابعة مباريات كرة القدم وغيرها، وآخرون,, تكتفي المؤسسة، التي ينتسبون إليها وظيفيا، بحضور شرفي لهم آخر كل شهر، من أجل التوقيع باستلام رواتبهم فقط، حتى تحقق نسبة (السعودة) أمام الجهات التنفيذية,,! انه رضىً متبادل بين مؤسسة وطنية وموظفين وطنيين,, وش للفاضيين مثلي ياترى,,,!
* إن مثل هذه الصور والمواقف، على حراجتها وغرابتها، لا يمكن ان تثنينا عن المضي في طريق (سعودة) الوظائف، وتوطين الفرص العملية والمهنية، لأن في ذلك، توفير ما يلزم من أمن عملي ووظيفي لمواطنينا وأبنائنا، الأمر الذي يتحقق به لكافة المجتمع، أسباب الرخاء والأمن والاستقرار.
* وحتى تكتمل الصورة، فينبغي الاشارة، إلى ان هذه التجربة التي تخوضها البلاد، ليست كلها سلبيات فقط، بل,, إن فيها كثيراً من الجوانب الايجابية المشرقة، أبطالها سعوديون وطنيون، جادون مخلصون، يستحقون الاعجاب والتقدير والاحترام من الكل، ولكن,, في العادة، تطفو الحالات الشاذة على السطح، فتصبح دلالات يستشهد بها في المجالس والمنتديات، لماذا,,؟ لأنها حالات شاذة بطبيعتها، غير مرغوبة وغير سارة، والكلام عليها هو من باب نقد الذات، وهذا شيء جيد، ،أمر صحي إذا لم نتوقف عند حد التسلي بسردها القصصي، وإذا أحسنَّا توجيه المسار بما يكفل تفادي النقائص والعيوب، وتقليل الأخطاء، وبما يحقق الكثير من الصور الايجابية المفرحة التي تدعم الفكرة، وتدفع عنها تهم النقص والشكوك في نجاحها.
assahm2001@maktoob.com
|
|
|
|
|