أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 2nd February,2001 العدد:10354الطبعةالاولـي الجمعة 8 ,ذو القعدة 1421

شرفات

شخصيات قلقة
هربرت سبنسر 1820 - 1903م
فيلسوف التحرر من العاطفة
مات الأولاد السبعة ولم يبق منهم سوى الصغير هربرت, كان صبيا غريب الأطوار، يحاول ابوه وعمه ان يعلماه مبادئ العلوم والتشريح واللاتينية إلا انه كان ينفر من أي تعليم منظم,, بل كان يفخر بأنه لا يكاد يعرف شيئا من قواعد النحو الانجليزية، وظل حتى سن الاربعين يدرس في علوم كثيرة دون انتظام، بل كان تعليمه سريعا يلتقطه عرضا.
في السابعة عشرة من عمره عُين مدرسا في مسقط رأسه دربي ثم لم يلبث أن ترك تلك المهنة ليعمل مهندسا مدنيا في سكك حديد لندن وبرمنجهام، وبسبب بعض الظروف السياسية فصل من عمله سريعا فقال: لقد فُصلت من وظيفتي,, فما أسعدني .
شعر انه اصبح حرا يملك وقته كله، فراح يتجول على الشواطئ يجمع الاصداف، ويدرس عمل النماذج، وينجز بعض المخترعات البسيطة مثل دبوس يضم الاوراق المنفصلة عن بعضها,, وفجأة اعتزم الذهاب الى لندن تاركا ابحاثه العلمية كي يشتغل بالادب, وفي لندن حصل على وظيفة مساعد لرئيس تحرير مجلة الأكونومست ووثق صلته ببعض الاعلام امثال جورج هنري وتوماس هكسلي وجورج إليوت.
وفي لحظة صفاء مع النفس ادرك ان الادب هو اقصر طريق الى الفقر وان لندن ليست نهاية المطاف والطموح، فقرر ان يرتحل إلى بلد آخر لعله يجد فيه حظاً أحسن وسماء أصفى, وبروح العالِم التي تسكنه راح يسجل على الورق المزايا التي سيجنيها لو مكث في لندن مثل الراحة المنزلية واشباع الميول الادبية، وكذلك المزايا التي سيجنيها لو رحل الى نيوزيلندا مثل الكسب الوافر وتحقيق الزواج المأمول، ووضع لكل مزية درجة حسابية، وفي النهاية رجحت كفة نيوزيلندا على إنجلترا بنسبة 113 درجة لانه وضع للميول الأدبية عشرين نقطة في حين جعل للزواج المأمول في نيوزيلندا مائة نقطة,.
بعد كل هذا الحساب والتقدير عدل هربرت عن فكرة الهجرة، بل وعن فكرة الزواج ايضا، وقال في شيخوخته معلقا على هذا: لعل ميلي هذا غير المألوف للنقد هو مبعث ابقائي على حياة العزوبة ! وأخيرا دار القدر دورته وورث هربرت عن عمه بعض المال فاعتزل العمل في الاكونومست وتفرغ لكتابة المقالات والنظريات دون اي اعباء وظيفية فألف كتابا في الفلسفة من ثمانية عشر مجلدا يبسط خلالها فلسفته في التطور دون ان يقرأ ما كتبه السابقون في هذا الميدان، وألف كتابا في الاحياء دون ان يقوم بتجربة معملية واحدة لاختبار نظرياته، وامتدت ابحاثه من نظريات ميتافيزيقية إلى صناعة دبوس ضاغط,, من تصنيف العلوم جميعا إلى تحسين شص يصطاد به السمك.
لا يعني هذا انه كان دعيا متطفلا على تلك المجالات، وإنما كان هربرت عبقرية موسوعية لا تبارى فقد ألف كتابه الضخم علم النفس التركيبي على مدار عشرات السنين من عمره المديد ليصبح اخطر ما كتب في علم النفس في القرن التاسع عشر وفيه يتناول ميلاد النجوم وحياة الانسان وتقدم الروح برؤية شاملة ونافذة بناء على نظرية التطور التي كتب عنها باستفاضة قبل ان يظهر كتاب دارون أصل الاجناس ببضع سنين.
كان ينظر الى العالم كخط بياني هندسي منتظم، خاليا من الأضواء والظلال، فهو من اشد مفكري عصره صرامة، ويرى في افلاطون مجرد مؤلف لقصص من الدرجة الثالثة، كما انه يزدري الفن والادب ويبدو في ابحاثه كأنه آلة حاسبة أو عقل بلا قلب كما يصفه ناقدوه وكما يقول هو عن نفسه: ورثت قوة خارقة على النفاذ ببصيرتي إلى علل الاشياء، فقد تهيأت لي قبل أن أجاوز دور الطفولة ومن غير ان أتعلم,, بصيرة تنفذ إلى العلاقات الغائبة المحركة، لم يتهيأ مثلها لمن كانوا يكبرونني في السن !!
كانت شفتاه الرقيقتان تشيان بفقد تام للحساسية، وعيناه اللامعتان تنمان عن ضحالة في العاطفة, ذات مرة قابل في شبابه فتاة نادرة الجمال وجها وقدا، فسأله اصدقاؤه بعد اللقاء عن رأيه فيها، فقال: لو كان شأني كشأن أي شاب آخر، لاندفعت في مدح لا يقف عند حد، لكني أجيب بأن شكل رأسها لم يعجبني، اشير بذلك طبعا إلى تشخيصي للادمغة,, لأنه كان مولعا بقياس جماجم الناس كمقياس للحكم على اخلاقهم,.
هكذا كان حديثه كعقله بريئا من تذوق الجمال، وإذا تحدث كان دائم الاستدراك لنفسه حرصا على الدقة!! كان إذا قام برحلة لا يستمتع بمنظر الغروب لانه مشغول بحركة الارض في الفضاء، وحين سافر إلى أمريكا عاد بملاحظات غريبة عن حجم المدن وعن نهم الامريكيين في شرب الماء المثلج الذي ينشط الدورة المعدية لكن تنبيه الاوعية باستمرار ينتج حالة غير طبيعية تنتهي إلى اضعاف مزمن للدورة, وحين شاهد شلالات نياجارا فردوس العرائس في شهر العسل كتب ان ارتفاع الشلال 160 قدما ويقدر حجم الماء الذي يمر في الساعة بحوالي مائة مليون طن يتدحرج من علو 20 قدماً!!
عاطفته الوحيدة كانت التحرر من العاطفة، او كما يصفه عمه: إن النقص الاكبر في اخلاق هربرت هو في نقص الخوف, كان هربرت يبدو كعالم فيكتوري خشن ومتزمت، ويضطلع برسالة عقلية يعجز دونه الافذاذ، ولعل مرد هذا الصلف او الجمود يتمثل في مأساة حياته وتدهور صحته الجسدية, ففي الخامسة والثلاثين من عمره شعر باحساسات عجيبة في رأسه واصيب بأرق مزمن، وكانت هذه الاعراض نذيراً بانهيار عصبي عام لم يبرأ منه قط، وكان يستخدم سدادتي اذن يهدئ بهما اعصابه، ويتناول كل ليلة جرعات من العقار يستجلب بها النوم وقد أعد المسودة الاولى من فلسفته التركيبية وهو يرزح تحت اعباء هذه المتاعب,وما أن انتهى من وضع عناصر الكتاب، حتى قام اصحابه يجمعون الاشتراكات سلفا وكان سبنسر يرى ان يبيع مؤلفه على اربعة اقساط في السنة، ووافق ستمائة شخص على الاشتراك في هذا المشروع وبدأ الفيلسوف مطمئنا إلى انه سيصيب دخلا وافرا يحفظ عليه طمأنينة باله، لكن الاعداد الاولى من الكتاب ما كادت تظهر بأفكارها المجافية حتى انسحب اكثر المشتركين واضطر سبنسر إلى اللجوء إلى ميراثه الصغير حتى استنفده أيضا!
لقد طحنه الألم، وكاد القلق يطيّر صوابه، فأخذ يتنقل بمخطوطاته من نزل إلى نزل كأنه من البدو الرحل,, وبلغ من ضعف الجسم ما أعجزه عن الاملاء مدة تزيد عن بضع ساعات، ولتخفيف ألم الرأس القاسي كان يملي وهو يجدف في احد الانهار يجدف خمس دقائق ويملي خمس عشرة دقيقة والكتاب ينمو ببطء السلحفاة,, وعرض عليه بعض الاصدقاء بل والمنافسين أيضا الهبات كي يكمل عمله لكنه رفض باصرار، فتحول الأمر إلى ما يشبه اكتتاب عام يتزعمه منافسه جون استيوارت مل ونجح جمهرة من العلماء في رصد سبعة آلاف من الدولارات افهموه انها اشتراكات جديدة وصلت إليه.
تابع هربرت عمله في عناد وهو يتعاطى جرعات العقار باستمرار، وقصر نزهاته إلى مائتي ياردة فقط وإلى جولة مشي لا تزيد عن ربع ساعة بعد الظهر,, وكان في اخريات ايامه لا يستطيع ان يملي سوى اكثر من عشر دقائق دفعة واحدة وأصبحت القراءة تؤذي عينيه، كما منعه الاطباء من ان يتعرض لاي استثارة عقلية أو جسدية، وحرم عليه الاختلاط الاجتماعي طيلة السنوات العشر الاخيرة من حياته كما حرمت عليه سائر المتع العامة، فكان يستلقي على الاريكة او يجلس في الهواء الطلق يراقب السحب دون ان يهنأ سوى بسويعات قليلة من النوم وساعات طويلة من العذاب والكآبة بانتظار الموت ,, ,!!
شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved