| مقـالات
عندما كنت طالباً في لوس أنجلوس، اعتدت الذهاب كل يوم أحد إلى شاطئ فينيس بيتش ، المطل على البحر الهادئ غرب لوس أنجلوس, في هذا المكان الجميل أرى الأعاجيب فهناك النخيل التي تذكرني بالصحراء التي تربيت تحت لفح هجيرها، وهناك الضجيج الغربي بكل ما فيه من Fun وناسه الألعاب، العروض، التجمهر، خيول رجال الأمن بين المرتادين، والكلاب النظيفة وملقدو السائرين، والمطاعم والحوانيت المختلفة,,
وأخيراً هناك الشاطئ الهادئ الذي أفضله كثيرا حيث يمنحني الفرصة لتذكر الوطن، والأهل والأصدقاء ومرابع الصبا,.
وأذكر أيضا أنني تحدثت مع أمريكي يدرس الإخراج السينمائي في إحدى جامعات لوس انجلوس عن أشياء كثيرة تتعلق بالإبداع العربي من شعر وموسيقى، وأسمعته مقطعاً لأم كلثوم أظنه الأطلال لإبراهيم ناجي,, فقال لي إن هذه الموسيقى تشبه الثعبان سنيك في تلوّنها وطبيعة بنائها المرتفع تارة والمنحدر تارة أخرى، وعدم استمرار التون في خط موسيقي واحد, مما أضحكني ساعتها تشبيهه هذا.
فقلت له ربما لأن الإنسان العربي المسلم محاط بالكثير من القيود، والاعتبارات الدينية والاجتماعية التي آمن بها والنفسية أيضاً التي لا يستطيع التصريح إزاءها بكل ما يعتمل في صدره من أشياء فيلجأ كشرقي إلى جانب التلميح لا التصريح ,, ولو تمت الصراحة والمباشرة في إبداعه لقلّت قيمته وربما يخرج عطاؤه من دائرة الإبداع ويكون أقرب إلى الانطفاء، والبهوت!!
ثم قفزنا إلى الشعر باعتبار أنه ليس لدينا قنوات فنية كسعوديين غير الغناء والشعر والفنون الجميلة,, لا مسرح لدينا ولا دراما ولا سينما ولا عروض Shows , ولما دخلنا عالم الشعر احترت من أين أبدأ, فاخترت الشعر النبطي لأقترب إلى محدثي وأروي له شيئاً معاصراً، وقريباً إلى نفسي ساعتها حيث كان نسيم البحر الهادئ لطيفا بهبوبه,, لِمَ لا وهو البحر الهادئ؟ فخطرت أبيات خالد الفيصل:
معك التحية يا نسيم الجنوب
ضم بحنانٍ لين العود ثلاب
بالهون ضمّه يا لطيف الهبوب
لا تزعج عيونٍ شكت طول الأهداب
تلقاه واقف بين هاك الدروب
في هضبة ياما تناجى بها أحباب
تراه من بد العذارى لعوب
يضحك ومع ضحكه سروق للألباب
في ضحكته لحن الغرام الطروب
في مسمعي لحنه على البعد ما غاب
يشهد على ما قول قلب تعوبي
قلبٍ غدا به سيد أهل نجد نهّاب |
عندها قال محدثي إنه معجب من رقة هذه الأبيات، وعمق التصوير في فحواها وركّز على ترجمتي للبيت الذي هزّه وهو:
بالله ضمه يا لطيف الهبوب
لا تزعج عيون شكت طول الأهداب |
حيث يناشد الشاعر هبوب الهواء اللطيف أن يضم حبيبته، ويحتويها برقته، ولم يكتف بذلك، بل إنه يسأل ذلك الهبوب بأن لا يزعج عيون معشوقته التي تشتكي عيناها من طول أهدابها,, مما يعبر عن صفاء روح الشاعر، وتغلغل الرومانسية في أعماقه,, ناهيك عن الأوصاف الأخرى التي يأتي في طليعتها.
يضحك ومع ضحكه سروق للألباب
,, المهم في الأمر هنا,, هذه القصيدة مضى عليها ما لا يقل عن خمسة وعشرين عاما, ولا يزال مجايلوها يترنمون بها ويحفظونها,, لاحتوائها على معانٍ عميقة ورقيقة,, أين شعراؤنا الشباب الذين يكتبون شعراً وقتياً، وسطحياً لا يصمد أمام عوامل التعرية الزمنية؟ لو تأملوا فيما يكتبون أكثر، وفكروا أعمق لما أخرجوا لنا شعراً نقّازيا يقفز كالعصفور من شجرة إلى شجرة أخرى دون أن يترك أثراً على أغصان أي منها.
ولربما يأتيك من يقول إن عصر الثمانينات والتسعينات الهجرية قد ولّى بهدوئه ورومانسيته وشعره المتأمل، وحل محله شعر يحاكي واقع التقنية ووسائل الاتصال المعاصرة ذات الإيقاع السريع,, ولربما كتب شاعر اليوم شعره واضعاً في ذهنه صلاحيته للغناء وللانتشار مما يفقد الشاعر طبيعته وسليقته التي يخرج منها الإبداع,, ولا داعي للتمثيل ببعض شعراء اليوم لأن الهدف ليس الهجوم بقدر ما هو إشارة إلى علاقة الإبداع بالزمن فكل ما استمر الإبداع عبر السنين دلّ على أصالته وإبداعه,, وخالد الفيصل نموذج للعطاء المتأمل وإلا فهناك شعراء مبدعون لكنهم قلة,, فهل يعيد بعض شعرائنا منهجيتهم وبعض أساليبهم التي تؤهلهم ليكونوا فعلا شعراء!!!؟
AlReshoud@ Hotmail.com
|
|
|
|
|