توقعتها ستقول الكثير,, كان صوتها مبحوحا، عزوته كالعادة الى فراغها من الصلاة، لكنها لم تزد على ان قالت:
اريدك غدا.
وأقفلت السماعة,, ظننتها ستقول أحضر الأولاد,, أتريدني في أمر خاص؟، لقد تعودت ان تجمعنا عندها في مثل هذا الوقت من كل عام، واذا ارادت احداً على حدة دعته في وقت آخر,, صرفت عني ظنوني، وقررت الحضور بمفردي,, وانا أبحث عن علبة استرعى انتباهي صحن الفاكهة حدقت فيه ملياً، وعادت اليّ وساوسي,, أمي تحرص على الفاكهة في هذه المناسبة,, لابد أن احضر معي شيئا,, لماذا كان حديثها مقتضبا هذه المرة؟,, أظنها فعلت ذلك عمدا,, عندما دارت الساعة بأرجلها العرجاء كان الوقت قد أزف,, فشددت العزم اليها,, صوتها لم يكن متهدجا من الصلاة,, أعلم انها تعاني من بعض الجيران,, لا بأس,, لا بأس,, عندما احضر سأرى الامر بنفسي، وكانت خطواتي سريعة رغم فكري المشوش,, توقفت عند بابها خالي الوفاض,, فتحت لي صدرها الدافىء ,, ألقيت برأسي عند قدميها,, كانت تعرف خجلي منذ كنت صغيراً,, قرأت في عينها بريق الشوق، وكانت اسئلتي كثيرة نصفها دموع,, الاصوات تنبعث من غرفة الاستقبال ,, ترى هل جمعت كل الجيران لمناقشة قضية الازعاج؟,, مدت يدها,, فتحت باب الغرفة,, كانت تغص بالضيوف,,ملأت يدي الخاليتين بالمصافحة,, كم أنت رائعة يا أمي؟! ما هذا الحشد الذي أنتظره منذ زمن؟,, الآن أدركت سر تهربها من احضار الاطفال، والزوجة,, كانت تعلم مدى شوقي لهؤلاء الضيوف,, الذين احيا بفكري معهم، وبسطنا الحديث وتلاقينا على سماط الفكر,, أكلنا من يدها الحانية,, لقد أعدت فأحسنت الطهي,, كانت بارعة في كل شيء، وكانت عيون بعض المدعوين تنطق حسدا.
,, تلوت آية الكرسي والمعوذتين، وبدأنا النقاش,, هذا الطعام يكفي لخلق كثير,, لماذا لا نحضر العائلات؟ سترمى البقية في الزبالة,, أمك ولاشك محافظة,, لا تشجع الاختلاط ,, كنت صامتا اسمع، وأرى ,, كانت امي منهمكة في اعمالها التي لا تنتهي,, فكرت كثيرا ان أبوح لها بما في صدري، لكنها ستتهرب منه كعادتها,, هي تعرف نقاط ضعفي,, يا الله كم هذه الام قوية,, احس في عينيها الشيء ونقيضه,, قلت في نفسي بعد انصراف الضيوف سأختلي بها وأحادثها في الأمر,, لما ودعنا آخر ضيف,, كانت قواي قد انهكت,, ارقدتني على حجرها، وراحت تهدهدني,, مرت ساعات، وانا اغط في نوم هانىء ,, لما أفقت غسلت وجهي سريعاً، وتهيأت للحديث معها,, نظرت في وجهها,, كانت عيونها حمراء أتعبها السهر,,, ابتلعني صمتي, ثم يممت وجهي نحو الأهل,, أشارت اليّ من بعيد,, طالعتها شمس تغرب بين النخيل,, تستعد للموعد القادم,.
تنفست عميقا,, عدت طفلا ألعب بالحجارة كعادتي,, أقذفها عاليا ثم انصت لسقوطها، لكنها لا تعود الى الارض,, ادرت عيوني في السماء,, فاجأني فم كبير يطل بأشداقه المرعبة يريد ابتلاعي,, صرخت,, بسملت ,, مسحت عرقي,, كان حلما مرعبا,, فكرت فيه طويلا دون جدوى,, زوجتي قالت وهي ترى ضيقي:
في المرة القادمة خذني معك وستعرف كل شيء.
والاولاد؟
نأخذهم أيضا.
دفنت رأسي في الفراش أكتم أصواتا تزلزلني منتظرا شروق الشمس.
فهد المصبح
|