| مقـالات
إن مسألة إعداد المعلم وتأهيله من المسائل التربوية المهمة التي حظيت باهتمام كبير من قبل التربويين، وخاصة أن نجاح العملية التربوية يرتكز على المعلم بشكل كبير، لذلك لا بد من إعداده إعدادا متكاملاً ليكون قادراً على تحمل مسؤولياته والقيام بواجباته، وسنحاول التركيز هنا على شخصية المعلم التواصلية، لما لهذه الجوانب من آثار إيجابية على التلاميذ، وعلى قيامه بالأدوار التربوية والتعليمية المنوطة به، حيث يتم فصل مصطنع بينهما، ويقصر دوره على الجانب المعرفي الذي يتلخص بتزويد التلاميذ بالمعرفة الجاهزة.
لعل من المفيد التذكير بأن المعنى العام لمصطلح المعلم لا يُقصد به معلم المدرسة فقط بل بالإنسان الذي يعلم الآخرين بغض النظر عن مهنته، رغم ان ما سيرد لاحقاً يخص معلم المدرسة أكثر من غيره ولا يعني التعليم نقل المعارف والمهارات والخبرات بل التوجيه والتحفيز نحو القيام بفعل ما.
إن تربية التلاميذ واجب مقدس للمعلم، ولكن يعاني عمله في هذا المجال من ثغرات عديدة، وربما يعود ذلك الى ما ذكرناه سابقاً حول الفصل المصطنع بين الأهداف التربوية والتعليمية، حيث ينظر الى الأولى على أنها ثانوية، وهذا ما يؤثر على طبيعة العلاقة بين المعلم وتلاميذه من حيث تحقيق النتائج التربوية والتعليمية المرجوة، لذلك لا بد من توافر مقومات كثيرة لبناء هذه العلاقة على أسس علمية صحيحة ونذكر منها:
1/ تعزيز شخصية المعلم وهيبته: كيف تفهم الآثار التربوية لشخصية المعلم؟ يتم عادة الربط بين الآثار التربوية وهيبة المعلم كشرط ضروري للوصول الى نشاط ناجح ومثمر, ويؤدي غياب هذه الهيبة الى انعدام العلاقات المتبادلة الصحيحة بين المعلم والتلاميذ، وانعدام الشروط الطبيعية الملائمة للنشاط التعليمي والتربوي المنتج, لا بد من توضيح مفهوم الهيبة، يرى البعض انها تتجسد من خلال مهارات المعلم في إرغام التلاميذ على العمل، لكن ما يثير الانتباه هو الإرغام ، فهل يمتلك الهيبة من يفرض النظام في الصف، ويرغم التلاميذ على إنجاز واجباتهم؟ لعل من المفيد التذكير بما ذكره أحد الباحثين حول هيبة الأهل، حيث تكون مزيفة عندما تتجسد عن طريق القمع والكبت وترتكز على العقاب كمعيار للضبط، وبالتالي تكون هذه الهيبة قائمة على الخوف, وكذلك الأمر بالنسبة لهيبة المعلم فقد تكون مؤشراً على انضباط ظاهري في الصف، وإنجاز شكلي للواجبات، فيتراءى لنا من الوهلة الأولى ان كل شيء يتم بنجاح، ولكن يغيب الأثر التربوي للمعلم على تلاميذه.
2/ إتاحة الفرصة للطلاب لتحقيق الاستقلالية بإشراف المعلم: لابد لتحقيق النجاح في مجال تربية التلاميذ من التركيز على تطوير نشاطهم ومبادراتهم وذواتهم، ولا يتم ذلك بشكل فجائي، لأن التسرع، والتكوين المصطنع للذاتية لا يؤديان إلى النتائج المرجوة، فهناك بعض التلاميذ الخجولين الذين لا يستطيعون التعبير عن ذواتهم مباشرة، لكنهم يبدأون بتقديم آرائهم واقتراحاتهم بثقة أكبر وتدريجياً, إن إتاحة الفرصة للتلاميذ لممارسة الذاتية شرط ضروري لتربية الإدارة التي تمتلك أهمية كبيرة في حياة الإنسان, لذلك فإن المعلم يقصر مهمته على تقديم المعرفة جاهزة للتلاميذ يتغافل عن الشروط الهامة والمصادر الأساسية التي تساعد على تكوين قوة الإدارة لديهم, حيث تشير نتائج بعض الدراسات التربوية الى ان قيام التلاميذ بتحديد الأهداف، ووضع خطط العمل ذاتياً يولد دافعاً قوياً لتذليل الصعوبات التي تعترضهم عند إنجازهم لما يفكرون به، فيكتسبون بالتالي المهارات الضرورية لتجاوزها وهذا التدريب على تحمل المسؤولية دلالة مهمة على قوة الإرادة, إذاً ان منح التلاميذ استقلالية أكبر يعزز هيبة المعلم، إضافة الى عوامل أخرى تعد مصدراً أساسياً لهيبته الحقيقية، وأهمها اهتمامه أثناء العمل مع تلاميذه، ويشير البعض الى ان هذا الاهتمام يتحدد من خلال حبه للعلم، ولمهنته واستيعابه للمعرفة العلمية، لا يمكن نكران دلالات محبة العلم والثقافة، لكن يتجسد الاهتمام من خلال القدرة على التواصل الروحي الوجداني بين المعلم والتلاميذ بقوة, ومثال ذلك: لنفرض ان معلماً دخل الى الصف فواجه حالة من اللامبالاة من قبل التلميذ تجاه الدرس، بالاضافة الى حالته النفسية التي تزيد الوضع سوءاً، ألا يصبح عند ذلك إغناء معارف التلاميذ والارتقاء بها مهمة صعبة؟, إن إحداث استجابات حية لدى التلاميذ يرتبط بالمعلم ونشاطه وعلاقته مع تلاميذه، فقد يكون بإمكانه جذب اهتمامهم الى المادة الدرسية مؤقتاً وفي بعض الحصص الدرسية، ولكن ذلك يمكن أن يتحول الى حالة عامة ودائمة إذا استطاع تكوين مناخ من الحماس الإبداعي، الذي يتوافر عندما يعزز المعلم سعي التلميذ نحو اكتشاف المعارف الجديدة، ويساعده في إغناء معلوماته، وينميه وجدانياً، فيظهر هو من التنسيق المتبادل والاحترام والصداقة، مما يساعد على تحقيق الأهداف التعليمية من جهة والأهداف التربوية من جهة أخرى, ولكن يخشى البعض أن يؤدي ذلك إلى خلخلة النظام داخل الصف، الذي يمكن تلافيه من خلال الإشراف الدقيق للمعلم على التلاميذ، لكن شرط ألا يقصد بالإشراف الأمر، لأن الخضوع للأوامر دون اعتراض أو تقليل يعيق حالة الحماس الإبداعي التي ذكرناها سابقاً, لابد للإشراف لكي يكون ناجحاً من أن يتمتع المعلم باحترام تلاميذه، الذين لا يرون فيه الإنسان الذي يمتلك المعرفة فقط، بل الإنسان الذي يسعى بكل قواه لإثراء معلوماتهم، وصديقاً أكبر سناً ومربياً في الوقت ذاته، يتمتع بكفاية الإشراف عليهم كجماعة وأفراد، دون تطرف باستخدام الأمر في تهديد كل خطوة من خطواتهم.
3/ حب المعلم للأطفال: يذكر التربويون عادة ان خصائص المعلم حبه للأطفال، الذي تشير معانيه إلى مشاعر التعلق بالاضافة الى الميل نحو شيء ما كحب القراءة، الموسيقى، الرسم،,,, الخ وترتبط مشاعر الحب بظروف حياة الناس والمجتمعات، حيث يسود في بعض المجتمعات اهتمام واسع بالأطفال عن طريق تصوير حياتهم وعالمهم الروحي في المؤلفات الأدبية والفنون التصويرية، والافلام السينمائية وفي الدعاية لأساليب التربية السليمة لهم ووسائلها، مما يساهم في تكوين ظروف موضوعية صحيحة لتعزيز شعور الحب نحوهم, وينطلق هذا الشعور من إدراكنا أن الأطفال هم مستقبلنا، والجيل الذي سيحل مكاننا، فمسؤولية تربيتهم تقع على عاتق الراشدين, لكن من المستحيل أن يكون إبراز مشاعر الحب أسلوباً من أساليب الرعاية والعطف فقط، رغم أهمية ذلك، لأن هذه المشاعر تتجسد عندما يمنح المعلم جهوده وقدراته ومعارفه لإيصال التلاميذ إلى أفضل النتائج تعليمياً وتربوياً ووجدانياً، لذلك ينبغي أن يمتزج حب المعلم للتلاميذ بالصراحة المنطقية والحزم.
ليست مشاعر العطف نحو الأطفال مقتصرة على المعلمين فقط، بل نلاحظها عند الراشدين عموماً، فهناك مواقف كثيرة تدل على حب الكبار للأطفال، ومثال ذلك: قد نشاهد رجلاً مسناً على مقعد في حديقة يقترب منه طفل، ويمارس ألعابه، فتشع عينا الرجل المسن بنار العطف، وتبدو عليه الابتسامة ويبدأ بمداعبة الطفل والحديث معه, وهناك حوادث كثيرة يساعد فيها الناس الأطفال الغرباء بسعادة عندما ينشغل عنهم والداهم أو يمرون بمصيبة, إذاً فمشاعر الحب نحو الأطفال سمة من سمات الناس عموماً، لكنها تكون أعظم لدى المعلم، وتتخذ أشكالاً أخرى, فالمعلم يعلم التلاميذ ذاتهم لسنوات طويلة ويربيهم، ويراقبهم بدقة، ويلاحظ نموهم الروحي، فيكتشف من خلال هذا النمو ثمار عمله، ويشعر وكأنه منح جزءاً من فؤاده إلى كل تلميذ من تلاميذه.
4/ أهمية تعرف المعلم للقدرات الكامنة لدى تلاميذه: تعد طرائف المعلم وأساليبه في التدريس مؤشرات على عاطفته تجاه تلاميذه، فإذا ما نظر إليهم كوعاء ينبغي ملؤه بمعارف وخبرات محددة، فلن يساعده ذلك في تجسيد حبه لهم، بل تخمد لديه بواكير العواطف النبيلة الموجودة لديه قبل البدء بعملية التعليم لذلك عليه أن يدرك أن كل تلميذ إنسان يمتاز بخصائصه الفردية ورغباته، وسماته العقلية وطباعه,, الخ ومن المفيد الاشارة الى ان بعض التلاميذ يمتلكون خصائص تبعد المعلمين عنهم وتنفرهم منهم، فهل بإمكان المعلم أن يحب هؤلاء التلاميذ؟ لنفترض وجود تلميذ في الصف لا ينتبه الى الدرس، يخرق النظام ويسبب الفوضى باستمرار، لا ينجز واجباته البيتية بانتظام، مشاكس,, الخ ولا ترضي هذه الصفات المعلم طبعاً، وتنفره منه، لكن ينبغي عليه ادراك أنه خلف هذه المظاهر الخارجية خصائص إيجابية كثيرة، فإذا ما حاول التعرف عليه جيداً يجد فيه صاحب عقل محب للاستطلاع، وقلب مرهف، ولديه قدرات عالية، عند ذلك يدرك أن الأعماق التي يجب استكشافها لا زالت بعيدة عن السطح، ويمكن أن نوضح ذلك بمثال بعيد عن التربية والتعليم، هناك أرض جرداء تغطيها الحجارة، لا تسر العين رؤيتها، ولا تبنئ باحتمال ان ينبت فيها، أية غراس، أو زرع, لكن اكتشف الجيولوجيون في باطنها ثروات ضخمة, إذاً قد يكون لدى المعلم افتراض غير صحيح عن التلميذ مما يمنعه من إدارك قدراته الكامنة.
5/ أهمية الدمج بين العمل الفردي والجمعي: ذكرنا سابقاً أنه من واجب المعلم فهم خصائص كل تلميذ، فهل يرتبط ذلك بتفريد التعليم؟ يقصد بتفريد التعليم كشف خصائص كل تلميذ ومراعاتها بهدف تعليمه بشكل ناجح، ويقصد به أحياناً أخرى مراعاة قدرات التلاميذ، والدقة والسرعة الذاتية في استيعاب المادة الدرسية، وخصائص التفكير، ونوعية المعلومات,, الخ إضافة الى أهميته في تذليل الصعوبات التي تعترض المتأخرين دراسياً, علاوة على ذلك فإن هذا المدخل يأخذ بعين التقدير نشاط المعلم الهادف الى تطوير قدرات كل تلميذ وتوفير الشروط التربوية المناسبة لتلبية حاجاته، والتوجيه الصحيح لميوله, ولكن يجب على المعلم ألا يقتصر في عمله على مراعاة حاجات التلاميذ وميولهم، لأن من واجبه تكوين شخصية متكاملة من جوانبها كافة، لذلك من الضروري سد الثغرات الموجودة لدى التلميذ وأهم الشروط لتحقيق ذلك هو الانطلاق من الحياة الغنية للتلاميذ كمجموعة، فمن الخطأ التفكير أنه بالامكان تطوير الطفل من جوانبه كافة عن طريق العمل الفردي معه فقط, ومثال ذلك ما ذكره أحد التربويين عن طفل لم يظهر أية مواهب، فلما شارك في الدرس، واكتشف المعلم من خلال علاقته معه وجود ميول لديه نحو الرياضيات، وعزز لديه هذا الميل, وأدرك منذ البداية أن من واجبه ان يساعده على تخطي هذا النمو الأحادي الجانب، وأن يولد اهتمامات لديه نحو جوانب الحياة المختلفة، والعلوم والفنون المتنوعة، فانطلق في ذلك من العمل الجماعي عن طريق الرحلات الى الطبيعة، والمصانع والمتاحف والمعارض,, الخ إضافة الى تكليف التلاميذ بقراءة الكتب الأدبية والعلمية داخل الصف وخارجه.
كما صنف تلاميذ الصحف في مجموعات وفق ميولهم: الموسيقية، الفنية، والأدبية,,, الخ, وبذلك استطاع تلبية حاجات التلاميذ من جهة، وولد لديهم اهتمامات جديدة, وشارك هذا التلميذ بالأعمال المختلفة رغم بقاء ميله نحو الرياضيات في المقدمة الذي غرزه المدرس بتكليفه بمسائل صعبة، وتوجيهه نحو الاطلاع على المؤلفات العلمية حول تاريخ الرياضيات وأنظمة العد عند الشعوب القديمة, إضافة الى ذلك ظهرت لديه اهتمامات نحو الأدب والفن.
نلاحظ مما سبق الدور الهام الذي يمكن ان يقوم به المعلم في توجيه التلاميذ للقيام بالأعمال المطلوبة بعيداً عن القسر او التلقين.
والنجاح الذي حققه المعلم هنا يعود الى أسلوبه في التأثير على الفرد من خلال الجماعة، والى طبيعة تنظيم العملية التعليمية التي كان له فيها دور أساسي، والمناخ الذي ساد ذلك الاندفاع المشترك من قبل المعلم والتلميذ نحو المعرفة الذي اتسم بالدفء الإنساني الأصيل، إضافة الى الطبيعة العملية للعلاقة التي سادت بينهما، فالمعلم يوجه التلاميذ نحو اكتساب المعلومات، ويغرس القيم ومعايير السلوك، أما التلميذ فيستوعب هذه المعلومات والقيم والمعايير.
إن تربية التلاميذ مهمة إنسانية شاقة، ولكي يستطيع المعلمون أداء هذه المهمة لابد من اختيارهم وفق أسس سليمة وإعدادهم إعداداً متكاملاً وتدريبهم بشكل مستمر، وتحسين ظروفهم الاقتصادية ليتمكنوا من الارتقاء بواقعهم الاجتماعي.
|
|
|
|
|