| وَرّاق الجزيرة
بما أن حضارات الأمم والشعوب، تقاس بموروثاتها الفكرية، وانجازاتها الحضارية، فقد كانت حضارة العرب والمسلمين من أعظم الحضارات التي عرفها التاريخ، شهد بذلك القاصي والداني، والمحب والمبغض، إلا حثالة من المكابرين.
وقد انتشر الاسلام وانتشر معه العدل والعلم، حتى أصبحت كثير من ديار المسلمين، مهوى أفئدة الدارسين، وقبلة للمتعلمين، واضطر كثير منهم الى تعلم العربية لدراسة تلك العلوم، وترجمة جملة من كتب المسلمين في مختلف العلوم، وما زالت أوروبا تعرف للأندلس قدرها.
بقي الحال على هذا، وبقيت الاسلام عزته ومنعته، حتى دارت عليه الدوائر، وحار بعد أن كار، وتخلف المسلمون عن سابق عهدهم، وضعف تمسكهم بسبب عزهم، واشتغلوا باللذات والملذات، بعد أن كان همهم الفروع والأمهات.
وما زال تراثهم وما ورّثوه لنا، شاهدا عدلا على منزلتهم السالفة، ومكانتهم السابقة، في علوم الشريعة والعربية والأدب والطب والصيدلة والفلك، وغيرها من العلوم والمعارف.
إلا أن الناظر اليوم، يجد ضعف اهتمام العرب والمسلمين بذلك الموروث، يظهر ذلك جليا، في وضع خزائن التراث، وما فيها من كتب ومخطوطات، تعبث بكثير منها الأيدي بالبيع للغربيين وتفريقها في مزادات الأوروبيين، وما بقي منها فله حظه الوافر، ونصيبه الأتم من الآفات الطبيعية.
وهذه المعاناة، معاناة عريضة لا تحيط بها مقالة صحفية، تكتب في عجالة، وكيف تحيط مقالة بمعاناة تراثنا داخل خزائنه التراثية، أو معاناة الباحثين والمستفيدين من شروط تلك الخزائن وأنظمتها، أو حال تراثنا وهو يخرج من بين أيدينا ليباع خارجها، ولا يجد في الداخل من يفي الكيل ويشتريه بما يستحقه، ولا يبخس الناس أشياءهم.
بل تعجب ولك الحق في العجب إذا نظرت الى أنظمة دول عربية عدة في عقوبة مهربي المخطوطات، ثم تنظر في حال ما بحوزتها هي من التراث، وإذا حاله سيئة.
ولم تجعل تلك الدول ميزانية لشراء ما يمتلكه الأفراد من المخطوطات، بحيث يكون مبلغا مناسبا، ودافعا الى البيع,, ولا يقف الخلل عند هذا الحد، بل يتعدى ذلك، عندما نرى أن كثيرا من المخطوطات وربما كان الأكثر لم يطبع بعد لاسباب كثيرة، فلو أفردت وأخرجت الكتب التراثية المطبوعة من جملة المطبوعات، لوجدتها على كثرتها، منحصرة في عناوين محدودة.
ثم لو جمعت هذه العناوين المطبوعة، ونظرت فيما طُبع منها وأخرج اخراجا علميا لائقا، يكون فيه ضبط المتن والنص كما أراده مؤلفه، وصحة قراءة المحقق للمخطوط، والعناية باختيار النسخة المختارة للتحقيق، لتقلصت أمامك هذه النسبة، بل تقل أكثر عندما تستثني من هذه الكتب ما نفدت نسخه.
والجدير بنا وبأمتنا مع تراثنا، أن نعتني به عناية تامة، وأن تجمع الجهود وتوحد للرقي بذلك، حفظا وعناية وجمعا، ثم طباعة وتحقيقا، وأن تقام مراكز علمية راقية، لتحقيقه التحقيق العلمي الصحيح ثم طبعه، وأما المراكز القائمة حاليا للتحقيق فمستواها العلمي أقل من المأمول، اضافة الى ضعف دعمها، وقلة نتاجها.
كما وضعت كثير من الخزائن التراثية شروطا عدة، منعت كثيرا من الباحثين من الاستفادة منها، كاشتراط بعضها أن يكون المستفيد محتاجا للمخطوط في رسالة ماجستير أو دكتوراه أو بحث ترقية.
أو اشتراطهم أن يكون لطالب التصوير كتب مطبوعة، أو اشتراطهم البديل بمواصفات معينة قد يتعذر عليه الوفاء بها، وغير ذلك.
وقد منعت هذه الشروطُ كثيرا من الباحثين من الاطلاع والاستفادة من تراثهم، بل ومنعت الأمة من اخراج هذه المخطوطات وتحقيقها وطبعها.
وإني لأفضلُ الباحثَ المجد، وطالب العلم المجتهد، الذي لم تكفه الكتب المطبوعة عن الكتب المخطوطة، فحرص على اقتناء بعضها والنهل من معينها، على صعوبة قراءة كثير منها، أُفضل ذلك الباحث على طالب جامعي اضطر للمخطوط اضطرارا، لأجل رسالته الأكاديمية، وتنتهي علاقته بالتراث بانتهاء الرسالة، فأي الشخصين أولى بالاهتمام والمعونة؟!.
والمشكلة لا تكمن في شروط هذه الخزائن فقط، بل تتعداه الى مستوى تعامل وتعاون هذه الخزائن فيما بينها، سواء الخزائن الاسلامية أو العربية أو حتى السعودية أحيانا، فتجد تأخر الاستجابة دائما، وانعدامه أحيانا، بل إن استجابة الخزائن التراثية الغربية بأوروبا أفضل وأسرع من استجابة كثير من خزائننا العربية بل والسعودية.
ولو وُحِّدت شروط تصوير المخطوطات داخل الجامعات والمكتبات السعودية، وأُلزموا بالتعاون المثمر فيما بينها وسرعة التجاوب، لكان أولى من أن يكون لكل جهة نظامها وشروطها، مع مراعاة تيسير الشروط بأكبر قدر ممكن، وحبذا هذه أمنية عزيزة لو أُسقطت هذه الشروط كلية، ولم يبق منها شرط، واتيحت الكتب المخطوطة للمستفيدين كإتاحة المطبوعات لهم، فليس شيء أولى من شيء، ليعم الانتفاع بها، ويحصل ما تؤمله الدولة من اقامة هذه المعاقل العلمية.
وليست بحمد الله جميع الخزانات بالمملكة على هذا النحو في التشدد، بل إن فيها خزائن عدة قد أصبحت قدوة ومثالا يحتذى في هذا الباب، وفي خدمة الباحثين وتيسير مهامهم، وعلى رأسها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية، فلا شروط على الباحث كي يستفيد من المخطوط أو يصوره، ومكتبة الملك فهد الوطنية، وكذلك خزائن أخرى شروطها ميسرة، وتعاونها جيد، كقسم المخطوطات بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، فلهم جزيل الشكر ووافر الثناء، وللحديث بقية.
ص,ب 37726 الرياض 11449
arrajhi@ayna.com
|
|
|
|
|