| الثقافية
في ذاكرتي المعرفية من المختزن بالفطرة كلمة اليهمة وهي تعني الجهمة نقلا من الدارج في اللغة من قلب الجيم ياء, وهي تعني الخروج مبكرا في قطع الليل الأخير, أو الحضور مبكرا قبل طلوع ضوء الفجر, وعندنا في سراة الأزد وتهامتها مثل يقول: يا غبني والفشل من يهمه ويقال للفشل الذي يأتي بعد تردد في قبول النصح أو الاقدام على عمل متأخرا, وهو يطلق اليوم على ما يدور من مفاوضات بين العرب واليهود في فلسطين، فقد كان العرب يرفضون كل ما يعرض عليهم وهم الآن يقبلون فتات ما كانوا يرفضون, وقد عدت إلى لسان العرب لابن منظور فوجدت ان ما في ذهني بالسليقة صحيح والحمد لله، فالجهمة والجهمة بالفتح والضم: أول مآخير الليل, وقيل : بقية سواد من آخره، قال ابن السكيت، جهمة الليل وجهمته بالضم والفتح وهو أول مآخير الليل إلى قريب من وقت السحر وأنشد:
قد اغتدي لفتية انجاب
وجهمة الليل إلى ذهاب |
وقال الأسود بن يعفر:
وقهوة صهباء باكرتها
بجهمة، والديك لم ينعب |
وبعد الاستماع إلى الشيخ عبدالله بن إدريس رئيس النادي الأدبي بالرياض في حديثه عن محاولة النادي قبل أكثر من عقدين من الزمان تكريم عبدالكريم الجهيمان وانتهاء التحضيرات للمراسم الاحتفالية جاء أمر بتأجيل الأمر إلى أجل غير مسمى, فقد وجدت ان المثل الجنوبي ينطبق على حالة أبي سهيل.
وعبدالكريم الجهيمان ما كان له من اسمه العائلي في التكريم نصيب كما يقول المثل الأزدي؛ فقد عاش الرجل قرابة القرن أحسن له الختام وأنسأ له في الأجل موفور الصحة والسلامة, ومجيء التكريم بعد هذا العمر من أعلى سلطة في الدولة له طعم ولكن بمذاق ولذة ليست كما لو كانت في جهمة من العمر.
فالمكانة الاجتماعية والفكرية التي يتمتع بها الجهيمان في الوطن رسمياً وثقافيا بل وفي العالم العربي والمستوى الحضاري الذي تنعم به بلادنا كلها شواهد على انه كان ينبغي أن يأتي التكريم قبل ذلك بكثير.
لقد سعدت بالحضور إلى الأمسية التي تحدث فيها ثلة من الرموز الفكرية في هذا الوطن عن الجهيمان وان كنت تمنيت لو كانت فعاليات تلك الأمسية في رحاب أي من الجامعتين اللتين في الرياض ليكون للأجيال معرفة وصلة بهذا الرمز الفكري.
وكنت أتوق إلى ان يكون الطرح قد نحا المنحى العلمي في دراسة أعمال وفكر أستاذنا الجهيمان ودوره في الفكر الوطني, ذلك لأن الرجل قد تباعدت به السن والغياب عن الساحة الفكرية عن أجيال متعاقبة نشأت في هذا الوطن وتواصلت صلة واتصالا صهراً ونسباً واجتماعاً ووحدة ومصيراً, لكنني كنت سعيدا بطرح الدكتور معجب الزهراني الذي وجدت فيه روح الجدية والعصرية والعلمية في الطرح والمعالجة رغم اختصاره لارتباطه بموعد آخر, ولعلي أستعيد مما علق بالذاكرة مما قاله معجب فلقد ألمح إلى المناخ الفكري الذي اثر في مسار الجهيمان الثقافي وممارسته المهنية,, من خلال انتمائه إلى ميثاق الخطاب الإصلاحي الذي وجد في الحجاز ذلك المجتمع المدني الذي وصل إليه الجهيمان قادما من مجتمع شبه منغلق نتيجة للعزلة في وسط الجزيرة العربية, ولا شك أن ذلك كان شأن كل المجايلين للجهيمان الذين وجدوا أنفسهم يقتادون من احضان آبائهم وأمهاتهم بأمر السلطة للسفر إلى مدن الحجاز حيث استقر الملك عبدالعزيز لإدارة الحكم من خلال المؤسسات الدستورية القائمة التي أمضى الملك عبدالعزيز رحمه الله وقته معها لتنظيم أمور الدولة الموحدة الأرجاء حتى توفاه الله, ولولا قرار السلطة السياسية هذا لما تعلم أولئك الأطفال وأصبحوا منارات مضيئة في المجتمع النجدي, ثم حملة مسؤولية مشتركة للعمل الوطني للوطن المملكة العربية السعودية, ولقد كانت الأستاذة آمنة عبدالحميد عقاد اكثر وضوحا في تحديد الأثر والتأثير الذي ساد الساحة الفكرية حين أشارت إلى أن العهد التركي قد ضيق على الشعب العربي ومنه الحجاز مما أتاح للعهد الهاشمي قيادة الثورة العربية التي كان الحماس لها بدافع عروبي للخلاص من الحكم التركي هو الذي اشعل وأذكى الروح الوطنية ونشر التعليم باللغة العربية ثم كان العهد السعودي الأكثر سعياً للوحدة الوطنية والاستقرار السياسي, ومن هنا فقد جاء وجود الجهيمان واترابه اوائل لعصر التنوير الاتحادي الاصلاحي في العهد السعودي.
ولعل إشارة معجب إلى أن الجهيمان قد كان من الجيل الثاني الذي زامن انتشار التعليم والرحلة من الريف قد أدت إلى وعي جديد إصلاحي لدى الجهيمان وحمد الجاسر رحمه الله حيث حاولا تفعيل الوعي الجديد هذا إلى الاهتمام بالخطابات السياسية والفكرية الجديدة عبر وسائل الإعلام بأسلوب الوضوح, ولعل هذا قد جاء من الأسلوب التربوي الذي أحدثته النقلة إلى المدارس والعيش في مجتمع مدني متحضر, وتأثر الجهيمان وغيره من الأتراب بالمناخ الفكري السائد في حواضر الحجاز لم يكن مقتصرا على القادمين من خارج الحجاز بل ان جيل الرواد كأحمد السباعي وأحمد العربي ومحمد حسن عواد وحمزة شحاتة والآشي والدباغ وعبدالله عبدالجبار ومحمد سعيد عبدالمقصود ومحمد حسن فقي والعمودي وعبد الله بن حميد كان حالهم واحدا في تبني أفكار المنهج الإصلاحي نتيجة لدعوة النهوض في العهد الهاشمي ضد الأتراك يقول محمد حسن عواد رحمه الله كما جاء في كتاب آمنة عبدالحميد عقاد محمد حسن عواد شاعرا
العقل فوق الحس إنك قلت ذاك فأين ذاك
دعني وقم بالواجب الوطني وابتدر العراك
وقد سار على نفس النهج الإصلاحي الناقد أحمد السباعي في كتابه دعونا نمشي ومحمد حسن عواد في مقالاته واشعاره ولعل كتابه خواطر مصرحة قد حوى مقالات نقدية أدبية جريئة تعلن الرغبة الشديدة في إصلاح الوطن وتقدمه في شتى المجالات (آمنة عقاد 1985:435).
والجهيمان وأترابه وأقرانه في هذا النهج حالهم كحال كل اصحاب الرأي في المجتمعات التقليدية في حماسهم وإيصال صوت النداء من أجل السير للفلاح والتقدم والرقي بخطى راسخة في الحفاظ على القيم الجميلة ذات الصلة بأس الحضارة والمعرفة وانهم في هذا الوطن أهل قبلة واستقبال.
إن أبا سهيل لا يعرفني ولا أعرفه شخصياً رغم أني لاقيته مرة أو مرتين في دارة العرب الجاسرية، لكنني قد عشت معه في رأي فرد من الشعب، وأين الطريق, وأصدق القول أنني لم أكن أعلن أنه شاعر إلا بعد حديث الشاعر عبدالله بن ادريس عنه في ليلة التكريم!!
وأحببت الرجل في الله وخجلي من الله ثم منه انني لم أبلغه هذا كما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولكنني سأفعل وأعلنها هنا من منبر الجزيرة, وما الحب إلا اعجاب بالطرح الفكري الصريح الفصيح القوي الجريء المترفع عن الاسفاف وهنا بعض عوامل الاعجاب:
* لقد جمع الرجل ذو الجهمة مالا يلتقيان سهيلا والثريا نجمي العلو والجمال والخير فقد سمى ابنه سهيلا وابنته ثريا, وعمره الله كيف يلتقيان!!؛ لقد جمعهما في مدارات الحب والحنان، وأنا معهما وغيري من أجيال هذا الوطن.
* عنايته المبكرة في الاهتمام بالكتابة للطفل في زمن كانت ثقافة الكبار تقارب الصفر, ومحدودية اوعية المعلومات.
* تصديه مع حمد الجاسر رحمه الله للمطالبة بتعليم النساء في وقت كان طرح مثل هذا الحق الشرعي من المحرمات في المجتمع التقليدي.
أما مؤلفه عن الأساطير الشعبية فقد كان عملا ذكياً منه في ذلك الزمن حين كان الخيال أكثر ارتباطا بالسماع دون النظر / الرؤية او القراءة مقارنة بالحال اليوم بتعدد أوعية المعلومات المرئية والمسموعة من الأرض ومن الفضاء, فقد حل اليوم محله ما يسمى بالخيال العلمي, ولعل المسؤولية اليوم على المؤسسات الثقافية الأندية الأدبية لنقل ما قام به الجهيمان إلى لغة الخيال العلمي بدلا من الأسطورة.
إنني اليوم ومعي أجيال سابقة ولاحقة نقف احتراماً لهذا الرجل الذي قاد ومعه كوكبة من المثقفين في أرجاء هذا الوطن الرأي المستنير في بدايات التأسيس والانطلاقة لوطننا المملكة العربية السعودية, وهو وأمثاله منارات اقتداء وهم مؤهلون ومستحقون للتكريم, وشكراً لقادتنا على حمل راية التكريم باسم الوطن.
|
|
|
|
|