| مقـالات
من أول خلافة إسلامية حقيقية تمثلت في حكومة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سقوط آخر خلافة إسلامية تمثلت في السلطنة العثمانية: وجد تعددية الفرق والمذاهب باستثناإ الجماعة الناجية,, جماعة السنة والإقتداإ بالسلف ,, تعدديةٌ تتصف بالشغب والشذوذ؛ لأن الدار إسلامية، والدستور إسلامي، والدول إسلامية,, ومن ثم لم يحتج السواد الأعظم إلى تسميات تميِّزهم عن شذوذ الفرق مثل الحركات الإسلامية، أو الأصولية، أو الإسلاميين,, إلى آخر قاموس ما يُسمَّا اليوم الإسلام السياسي (1) ,, ولم يتحزبوا تحت شعار مصطلحات وتسميات كالإخوانيين وجماعة التبليغ، وجماعة التحرير، وحركة العدل والإحسان (2) ,, إلخ.
وأما مصطلح السلف، وأهل الحديث، وأهل السنة والجماعة فلم يكن في نطاقِ غمارِ عامةٍ وزعامةِ قياداتٍ سبيلها الثورة، وغايتها الحكم,, وإنما كان في نطاق العلماإ والمألفين بدافع تبصير العامة بصحة الانتماإ بعد تعدد الفرق البدعية، ولم يستعيروا مصطلحهم، بل أخذوه من ضرورة التوافق بين مضمون التسمية الشرعية وواقعهم؛ فقد ميَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية بمن كان على مثل ما هو عليه وأصحابه رضوان الله عليهم، وأنهم ظاهرون لا يضرهم من خذلهم، وتجلاَّ ظهورهم في القرون الأُولا الممدوحة التي حكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية؛ فكانت أخصب ظرف زمني لهاأُلاإ الفضلاإ الذين كانوا سلفاً، وكانوا سلفاً صالحاً,, وما وُجد من وشب في السلوك خلال القرون الممدوحة: فإنهم يردُّونه إلى صحيح الحكم الشرعي وصريحه، وإلى سيرة من ليس في سيرته وشب,, وتلك الفرق معلل اختلافها وشذوذها على مُستوا الآحاد بخطإٍ في الاجتهاد سببه حرية الفكر وجسارة السلوك على ما رسمه الشرع منهجاً للتفقه فيه,, وبِهواً وعصبية وحمية، وبرغبة في السيطرة السياسية والشهرة العلمية، وبتضليل أمم مغلوبة تكيد في الخفاإ، وبتضليل ملل أخبرنا الله بأنها تود لو نكفر.
وعلى صعيد العلم والمعرفة لا السياسة قَبِل واقعُ السلف الانقسام إلى مذاهب فقهية حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وظاهرية وأوزاعية وسفيانية وليثية وجريرية,, إلخ,, وكان أئمة أهل هذه المذاهب ذوي ورع وعبودية لله بالخضوع لشرعه,, وشذوذ أي مذهب (المفردات) مرجوع به إلى البرهان الشرعي، وما لا يُعلم فيه خلاف، والترجيح من مذاهب العلماإ الفحول خارج دائرة المذهب.
وكل دولة قامت حينئذ مهما كان من تقصير وتجاوز في قياداتها توصف بالعصيان غير المخرج من الملة، ولا توصف بالاستحلال لما حرم الله؛ لأن الدين لم ينفصل عن الدولة والحياة العامة بفرض قانونٍ غير شرع الله,, وكان القائم على إبلاغ الأحكام الشرعية والحكم في الوقائع علماأَ المذاهب الفقهية المتبوعة من حنفية ومالكية,, وهم في اختلافهم مأذون لهم شرعاً بمنطق مشروعية الاجتهاد فيما يسع فيه الاختلاف، ومنطق أن إصابة المختلفين محال، بل هو الأجر والمعذرة؛ فكان كل مجتهد مصيباً، وليس كل اجتهاد صواباً,, وكان للمصيب والإصابة أجران، وكان للمصيب والخطأ أجر ومعذرة,, إلا أن هاأُلاإ المختلفين في المسائل الفقهية مجمعون على التزام ما لا يسمع فيه الاختلاف، ومن كانت له في هذا الباب هفوة: أزالوا شبهته، وردوا مذهبه بلا مواربة، والتمسوا له العذر يقيناً منهم بنزاهة القصد,, ولما كان هاأُلاإ هم القائمين على إبلاغ الحكم الشرعي وتطبيقه كان الدين واحداً فيما لا يسع فيه الاختلاف فَتواً وقضاأً ودعوةً وحسبة وتعلماً وتعليماً، وكان السواد الأعظم تبعاً لهم طيلة القرون الممدوحة,, ثم استفلحت التعددية واقعاً عملياً منذ قصر العلماأُ اتباعهم لأئمة الفقه السلفيين على مسائل الفقه، والتمسوا لهم أئمة في العقائد غيرهم حدثوا بعدهم,, وباستثناإ فرقتين إحداهما بعدت عن الحضيرة بعداً جعلها تأتي بدين جديد، وكلاهما عمل على الهيمنة السياسية أو الاستقلال السياسي: فإن هذه التعددية لم تُأثِّر على وحدة الجماعة فيما هو شرط لكيانها وعبوديتها لربها، فكان القضاأُ (من مذهب واحد، أو من مذاهب جُمِع علماأُها للمشورة) يلتمس بنزاهةٍ حكمَ الله في مسيرة الجماعة بمفهوم الإسلام، ويترك مسائل الإيمان للجدل العلمي بين العلماإ,, والسني مثلاً والأشعري والمرجِأُ يدٌ واحدة في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,, ولما قعد المسلمون عن الجهاد، وكان عملهم العسكري دفاعاً عما بحوزتهم على مدا البعد عن القرون الممدوحة : كان واقع سوادهم في الجملة تمزقاً وذهاب ريح,, يجتمعون على استحياإٍ لخدمة عمل مشترك يهم المسلمين، ويفترقون بوضوح وشجاعة على التحزب لمذاهب بدعية,, ولسوإ الحظ كان شعار الإخوانيين مستلاً من هذا الظرف التاريخي الضعيف؛ إذ كان منطقُهم الاجتماعَ على ما اتفقنا عليه، ولا نلام على ما اختلفنا عليه، أو يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه,, أي وحدة الصف على المشترك من الهدف.
قال أبوعبدالرحمن: ولست بسبيل نقد هذا الشعار أو تقريظه، وإنما غرضي تبيان جذره التاريخي من حال ضعف الأمة وتمزقها.
والملاحظ في تلك التعددية عن صدق تارة، وعن تضليل تارة أنها لا تنطق بدعوة علنية تُحاجُّ على اختيار الإسلام أو اختيار غيره، بل كلهم يدعي الإسلام، ويدعي أن ما هو عليه هو الإسلام باجتهاده؛ ولهذا سموا جميعاً أهل القبلة.
أما في عصر ما بعد سقوط الخلافة الإسلامية بالتدرج الرديإ إلى هذا اليوم فلم تكن التعددية تعددية اختلاف في مفهوم الخطاب الشرعي، وإنما هي تعددية تجعل الإسلام قسيماً لا جهة أقسام,, وبِمعناً أوضح فهي تعددية ملية لا نحلية!.
إن الذين يتحدثون اليوم عن جدلية الإسلام السياسي يتحدثون عن أمرٍ مصطلح عليه واحد تعددت أسماؤه الاصطلاحية كما أسلفت عن الأصوليين والحركيين,, إلخ، ولا يجعلون المصطلح عليه الوحيد (وهو الإسلام) معياراً لتصحيح مسار المختلفين في دائرته تحت أسماإ اصطلاحية عديدة، بل يجعلون الإسلام بكل قُوَا أهله الممزقة بالمصطلحات قسماً من أقسام كثيرة,, والجامع لهذه الأقسام أنها موضوع لنظرنا في اختيار السلوك الذي نريده، والدينونة التي نعتقدها,, إنها مساومة على الإسلام في بلاد الإسلام وأهله؛ لأنهم يطرحون للخيار مذاهب المسلمين سنيهم وبدعيهم مع مقولات أُخرا كالديمقراطية، والمشاركة السياسية، والحداثة، والتعددية (بما في ذلك تعددية غير المسلمين في ناشئةٍ آباؤهم مسلمون)، والعلمانية، وحقوق الإنسان، والمسألة النسائية، والهوية، والتعدد اللغوي والثقافي,, وكل ذلك مما طرحه الكاتب المغربي إبراهيم إعراب وغيره.
قال أبوعبدالرحمن: وأكثر المثقفين في مشرقنا ومغربنا يفرحون بالطرح الجديد ويستسلمون له؛ لأنني على دقة متابعتي لم أر واحداً قرأ مثل هذا الطرح فتجاوب معه بروح نقدية تُجيد حرية المحاكمة الفكرية لا حرية الاستسلام السلوكي,, والمغالطات في هذا الطرح ليست بعيدة عن أدنا الناس لمَّا حيَّة إذا تخلصنا من عقدة لذة التجديد!!,, إن المطروح هاهنا ليس من البدائل التي يغني أحدها عن الآخر بعد النظر,, إنها ليست كلها أحكاماً أو مصادر أحكام يكون سلوكنا واعتقادنا موضوعاً لها,, بل منها ما هو موضوع للأحكام ومصادر الأحكام كحقوق الإنسان، والمسألة النسائية,, ومنها ما هو أحكام ومصادر أحكام كالإسلام والديمقراطية,, إن الإسلام حكم الله لخلق الله، والديمقراطية حكم غير الله في خلق الله (حكم الشعب للشعب),, والمسألة النسائية موضوع نملك بحريتنا السلوكية أن نأخذ حكمها من الإسلام أو الديمقراطية أو المجوسية.
وحكم الشعب لنفسه بناخبين عنه وتصويت يكون موضوعاً للحكم الشرعي، فيرفضه فيما جعله الله من حقه، وألغا فيه الحرية البشرية بالعبودية الشرعية كضرورة تطبيق حدود الله، وأنه ليس للبشر حق إسقاطها,, ويقبله قبول إيجاب فيما فوَّضه الله إلى اختيارنا واجتهادنا من شأون دنيانا، وكان مصدر المعرفة فيه التجربة التاريخية، والخبرة العلمية طباً وهندسة وزراعة,, إلخ,, ومع هذا يكون التوظيف في إطار مقاصد الشريعة المطهرة.
وهذا الطرح ينطوي في مغالطته على خبث؛ إذ جعل الحكم كالإسلام قسيم موضوع الحكم كالمسألة النسائية والتعدد الثقافي؛ لاختلاس ذهنية المتلقي واستمالة سلوكه وتصوره؛ فيشعر بأن اختيار الإسلام يعني فقدان مباحات وواجبات الديمقراطية، وفقدان الحل للمسألة النسائية والتعدد اللغوي والتسامح والمشاركة والاعتدال والقبول بالتسوية والحق في الاختلاف والتعدد في الرأي والفكر والسياسة!!.
إن بلاد العرب والمسلمين بلاد الغالبية العُظما لأهل الإسلام قبل أن تُغلب عسكرياً، ولا تزال كذلك بسوادها الممزق الآن؛ فلا يجوز بادعائهم الديمقراطي إيذاء الأكثرية في دينها,, وأهل الإسلام في بلادهم يعلمون أن في الإسلام البت في مواضيع مثل التسامح والمشاركة,, إلخ,, ولكن بضرورة البرهان الذي هو هبة من دين الله وقضائه الكوني بخلقه العقل السوي، وأن مصدر ذلك الكمال المطلق لعلم الله وحكمته,, إلخ,, وليس بميوعة الشهوات والشبهات وإلى لقاإ.
* * *
الحواشي:
(1) وفي هذا ألف الكاتب المغربي إبراهيم أعراب كتابه الإسلام السياسي والحداثة، وتجد استعراضاً له في جريدة الشرق الأوسط عدد 7914 في 29/7/2000م ص 18.
(2) قامت في المغرب بزعامة الشيخ عبدالسلام ياسين الذي خرج من السجن بعد تولي الملك محمد السادس، وهي البديل من حركة الشبيبة الإسلامية بزعامة عبدالكريم مطيع، وقد حُلَّت بعد إدانتها باغتيال اليساري ابن جلون,, قال أبوعبدالرحمن: ورأيت ياسر الزغاترة من الأردن عَلاَ وجلٍ من انعزال هذه الحركة وضعف فاعليتها، أو قيامها بعمل يلغيها؛ لهذا وجه لها هذا الاقتراح المنشور بجريدة الحياة عدد 13531 في 23/12/1420ه ص 9: المسار الأفضل للساحة المغربية بكل أطيافها هو أن يدخل الشيخ ياسين وجماعته إلا اللعبة السياسية، بخطاب قوي يسمح لهم بتكوين معارضة حقيقية قادرة على المساهمة في لجم الفساد أو تحجيمه، وتشكيل قوة دفع توفر أجواأٌ أفضل؛ لصياغة حالة سياسية متوازنة بين السلطة والمعارضة وتساعد على حمل المغرب إلى آفاق ديموقراطية حقيقية تسعفه في مواجهة استحقاقات المستقبل من حرية تنمية وعدالة,, ليس من السهل القول إن هذا الاحتمال هو المرجح؛ فعقلية السلطة في العالم الثالث لا تستوعب المعارضة القوية، كما أن منهج الكثير من الإسلاميين لا يقبل بموقف يزهد في السلطة ويميل إِلا لعب دور الشاهد عليها والمراقب لأدائها والباحث عن مزيد من المكاسب للشارع الشعبي أكثر من المكاسب الحزبية الضيقة,, ومع ذلك يبقا الأمل في أن يعمل الإسلاميون في المغرب على صياغة نموذجهم الخاص الذي لا يكرر أخطاء الآخرين ويقبل بدور أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض كما تحدث القرآن الكريم دون أن يسعوا إلى مكاسب السلطة، وهو ذات الدور الذي لعبه العلماأُ خلال قرون عديدة (الزهد في السلطة والرقابة عليها من الخارج والالتحام بهموم الناس وقضاياهم والاستعداد لدفع التضحيات المترتبة على ذلك، في مسار يجعل إقصاأهم أو تحجيمهم صعباً .
|
|
|
|
|