كان الخليفة العباسي (المهدي) من عشاق الحمام على مختلف أنواعه، يحتفل به ويجلس إليه، ويستمتع بعراكه وهديله وحنينه وبكائه، وكشأن أصحاب السلطة ومن بيدهم مقاليد الناس، يجتمع حولهم المنافقون والانتفاعيون والوصوليون، كان قاضيه (أبو البَختري) ذات مرة حاضرا جلسة من جلسات المهدي الحمائمية، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا رهان إلا في خف أو حافر أو جناح) ليبرر بذلك عمل الخليفة، ويتزلف بهذا القول له، فزاد في الحديث : (أو جناح) فسكت المهدي، وخرج قاضيه، فقال المهدي والله ما دعاه إلى الكذب غير رغبته في إرضائي ثم أمر بالحمام أن يذبح ويفرق في الناس، وأقلع عن هذه الهواية، بعد ذلك ولم يعد يمارسها أو يجلس لها, ويتذكر أحمد شوقي مصر، وهو في منفاه بالأندلس، فيفتتح نونيته الشهيرة بنوح الحمام، فيقول:
يا نائح الطلح، أشباهٌ عوادينا
نَشجَى لواديك أم نأسى لوادينا!
ماذا تقص علينا غير أن يداً
قصّت جناحك جالت في حواشينا
رمى بنا البين أيكا غير سامرنا
أخا الغريب وظلا غير نادينا
إلى أن يقول:
فإن يك الجنس يا ابن الطلح فرقنا
إن المصائب يجمعن المصابينا
لم تأل ماءك تحناناً، ولا ظمأً
ولا ادِّكاراً، ولا شجوا أفانينا
تجرُّ من فنن ساقاً إلى فننٍ
وتسحب الذيلَ ترتاد المؤاسينا
ويتحدث شوقي إلى الحمام ويناجيه، ويطرح من خلال تلك النجوى همومه الذاتية، وآلامه وأحزانه الوطنية فيقول:
ولقد أقول لهاتف سَحَراً
يبكي لغير نوى ولا أَسرِ
يا طير بُثَّ أخاك ما يجري
إنا كلانا موضع السر
بي مثل ما بك من جوى ونوى
أنا في الأنام، وأنت في القُمرِ
ويقول في قصيدة أخرى:
أبثك وجدي يا حمام، وأودع
فإنك دون الطير للسر موضع
وأنت معين العاشقين على الهوى
تئن فنُصغي، أو تَحنّ فنسمع
فالحمام رفيق المنفيين عن أوطانهم، وسلوة العاشقين المتيمين النائين عن أحبابهم، يقول شوقي أيضاً:
هل تيّم البان فؤاد الحمام
فناح، فاستبكى جفون الغمام
أم شفه ما شفني فانثنى
مبلبل البال، شريد المنام
يهز بالأيك إلى إلفه
هز الفراش المدنف المستهام
وقد يربط الشعراء بين الحمام ومواقف الوداع والفراق، ويبثون شكواهم من البعاد، يقول الشاعر الأموي عمرو بن الوليد الملقب بأبي قُطَيفَة في أثناء حنينه إلى موطنه المدينة المنورة، وهو بالشام:
حال من دون أن أحل به النأ
يُ وصرف النوى، وحرب عقام
فتبدلت من مساكن قومي
والقصور التي بها الآطام
كل قصر مشيَّد ذي أواس
تتغنى على ذراه الحمام
(العقام: الشديدة، أواس: جمع آسية، وهي العمود (او السارية).
وقال عبدالله بن الدمينة الخثعمي، متشوقا:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
فقد هاج لي مسراك وجداً على وجد
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى
على غُصُن غضِّ النبات من الرّندِ
بكيتَ كما يبكي الوليد ولم تكن
جليداً، وأبديت الذي لم تكن تُبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
يملُّ، وأن النأيَ يشفي من الوجد
بكلِّ تداوينا فلم يُشف ما بنا
على أن قرب الدار خير من البعد
والحمام شديد الارتباط بموطنه، وذو فصائل وأنساب يعرفها أصحاب الخبرة، والمتمرسون بشؤونه، وربما باعه صاحبه، وارتحل به مشتريه، فإذا وجد مخلصاً منه رجع إلى صاحبه الأول، واهتدى إلى مكانه، رغم بعد المسافات، وقد يفعل ذلك مراراً، ومما ورد في بكاء الحمام قول أحد الشعراء:
وقبليَ أبكى كلَّ من كان ذا هوى
هتوف البواكي، والديارُ البلاقعُ
وهن على الأفلاق من كل جانب
نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجةُ الأعناق نمر ظهورها
مخطمة بالدر، خضر، روائع
ترى طررا بين الخوافي كأنها
حواشي برود زينتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها
خواضب بالحناء منها الأصابع
(الأفلاق: جمع فلق، وهو المطمئن من الأرض بين ربوتين، مزبرجة: موشاة بما فيه حمرة خفيفة: النمر: من قولهم: طائر منمر: إذا كان منقطا بالأبيض والأسود, مخطمة بالدر: محلَّى أنفها بالبياض، الوشائع جمع وشيعة، وهي الطريقة في الثوب)، ونلحظ أن هذا الشاعر لم يكتف بالحديث عن نوح الحمام، بل تحدث عن أوصافه، وتفنن في تشبيه تلك الأوصاف، فلو أراد رسام أن يستخرج من هذه المقطوعة لوحة لهذه الحمامة، لفعل ذلك بكل يسر وسهولة، وتلك قدرة فنية تحسب لهذا الشاعر.
وفي روميات أبي فراس الحمداني نجد الشاعر يمزج نوح الحمام بنواحه، وهو يعاني آلام الأسر والسجن، فيقول:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا هل تعلمين بحالي
أيضحك مأسور، وتبكي طليقة
ويطرب محزون ويندب سال
وها نحن نضحك ملء شدقينا، ونطرب صباح مساء ومآسينا ملء الكون، وصراخات جراحنا يغص بها الأموات والأحياء.
وقال أحد الشعراء: