| متابعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وبعد:
فإن من عظم الخطب وهول الأمر ان يسمع المرء ما يسوءه ويؤثر على نفسه ويكدر على حياته, وسماع نبأ رحيل العلامة فضيلة والدنا الشيخ محمد عن حياتنا من هول المصائب إلا أن عزاءنا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أن كل مصيبة تمر على المسلم فليتذكر مصاب المسلمين في محمد صلى الله عليه وسلم حينما رحل إلى الرفيق الأعلى, وعزاؤنا ما خلّفه لنا فضيلة والدنا من مآثر علمية ومسالك تربوية وتوجيهات دعوية زخرت بها حياته وحبرت في الكتب والمذكرات, وسمعت في وسائل الإعلام والاتصالات, وقيدت في الفتاوى عبر الرسالات والتعليق على المنشورات, ولست بصدد ذكر ذلك وإيضاحه فقد امتلئت الصحف خلال الأيام الماضية بمثل هذه المآثر العظيمة والمناهج القويمة التي كانت عليها حياة شيخنا, ومن نافلة القول أن أزيد ما سمعته من توجيهات وما حظاني به من بلاسم شافيات, وما رسمه لي عبر هذه الحياة، وإن كنت من الطلاب الكسالى المقصرين ومن المتخلفين عن ركب المطايا إلا أني حظيت معه بذكريات وشنفت سمعي منه مقالات وارتشفت منه من المعين الصافي ومن القول الجيد الوافي، فقد كنت طالباً في المرحلة الثانوية في المعهد العلمي في عنيزة فكان مثالاً للأب الحنون والمعلم المتفهم غير المنون، والتربوي الواعي تجري من جنباته ينابيع العلم فكان مثالاً للسلف الصالح والعالم الرباني, يتبسط مع المتعلم ولا يرهقه حتى يتألم, كان مربياً تتمثل فيه الصفات التربوية بكامل معانيها, أتذكر أننا اتفقنا مع طلاب الفصل في الثانية ثانوي ان نخرج برحلة برية ليوم كامل فطلبنا الشيخ أن يخرج معنا فوافق مبديا تمام استعداده للخروج ورعاية هذه الرحلة فكان في هذه الرحلة العجيب والعجاب والأدب والآداب، وانظر إلى هذه الرحلة والرعاية التربوية والتوجيهات الأبوية وانظر إلى هذا التقسيم والتنظيم الذي تم في هذه الرحلة والفائدة الجمة التي خرج بها الطلاب من خلال هذه النزهة, ولعلي أتذكر أن فضيلته بعد التوجيهات والتعليم والترتيب ابتدأنا بالسباق على الأقدام فكان والدنا الشيخ هو الأول مع أحد الطلاب فكانت النتيجة ان سبق الشيخ الطالب لقوة جريه ثم تتابع السباق, ثم انتقل بنا إلى برنامج آخر وهو السباحة وكانت منطقة المنتزه الزغيبية وفيها عيون جارية موضوع عليها براك على هيئة مسابح وفيها المياه صافية فكان الشيخ يضع قطعة من النقود الحديد داخل البركة ويقول أيكم يأتي به فيتنافس الطلاب في ذلك فكانت مباريات ورياضات فيها الفائدة والخير حتى استمتع الطلاب بالسباحة والسباق للوصول إلى الغرض ثم انتقل بنا إلى برنامج آخر وهو الرماية وقد أخرج فضيلته (بندقية أم حبة) أتى بها ليتمرن الطلاب عليها ثم اصطففنا للرماية ووضع غرضاً لإصابته حتى بدأ كل طالب يتقصد الهدف ليصيبه فكانت النتيجة أن أصابه البعض وأخفق آخرون فانظر الهدف العظيم الذي وصل إليه الشيخ من خلال هذه الرحلة الطلابية من تعليم السباحة والرماية، والمسابقة على الأقدام يتمثل في حسن اختيار الشيخ ومدى إدراكه للفائدة التي تحصل للطلاب, لو أن كثيراً من المربين اقتدوا بمثل هذه المناقب لحصلوا خيراً ولأفادوا كثيراً كانت تجمعنا معه في الدوريات الأسبوعية الليلية التي تجمع لفيفا من طلبة العلم والعامة كان يتبسط في الكلام ويعطي كل متكلم حقه من الكلام ويجيب ويحاور ويمازح وربما يأتي بالنكتة ويوصينا بالتثبت في الأخبار وعدم الاستعجال, وكان فضيلته لا يثرّب أحدا في المجلس بل إن الكثير من الجلساء قد يتجاوزون في الكلام فيقطع عليهم ذلك بنقل الكلام إلى موضوع آخر وكانت جلساته توجيهات وعلماً وفتوى ويتخللها بعض الطرائف التي تعطي الجلسة السرور والطمأنينة، ومن فوائد تلك الجلسات أننا تعلمنا دقة المواعيد والتدقيق فيها بل إن فضيلته رحمه الله لا يمكن ان يقدم وعداً على آخر لوجاهة أو نحو ذلك بل كل موعد يعطى حسب الأولوية وكان ينهي الجلسة بالموعد المحدد ويقول لصاحب الجلسة كم الساعة يا فلان؟ الليل قصير أو الليل ذهب, وكان كل واحد من الحاضرين للجلسة يرغب أن يوصل الشيخ إلى بيته فيتنافس عليه الاثنان والثلاثة ويقدم صاحب الطلب الأول أو الذي اتفق معه أولاً, أو يستأذن الأول للآخر الذي طلب الشيخ للانفراد به لحاجة، هذا دأبه رحمه الله في الجلسات.
ومن الذكريات التي مرت بنا مع شيخنا الفاضل أنه حينما طلب البحث عن إمام لجامع حي الصالحين في عنيزة، طُلبت لأكون إماماً وخطيباً فترددت في الأمر ثم عزمت على أن أترك ذلك, وحينما علم الشيخ بذلك استدعاني وطلب مني أن أقوم بذلك, فتعللت بعجزي عن ذلك ثم قال استخر الله وأفدني, ثم تراخيت في الأمر فأوصى أن أصلي معه الفجر فلما قابلته قال إن الأمر متعين وواجب عليك فقلت لا أستطيع أن أخطب فقال لا تتصعب الأمر وتوكل على الله وحينما عزمت وبعد مدة راجعته في أمر الخطبة فقال الأمر يسير فقد كنا في أول الأمر يعني نفسه نستعين بخطب الماضين أو كلمة شبه ذلك, ثم أوصاني بكلمات جميلات وقطوف دانيات فقال أخطب وانكر المنكر ولا توغل ولا تدخل في الأمور الشائنات ولا في الأحوال غير المعنيات, والمح فيما تقصده من تصريحات, وأذكر أنه قال في أحاديث عن موضوع الخطب ان أعواد المنابر ليست للفضائح والشتائم, وكان يوجهنا بالالتزام بآداب الخطب والسير بها على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح وقال يسعكم ما يسعهم, وحينما وجهني للخطابة أرسل إلي إعانة وإفادة وتسهيلاً مع ابنه عبدالرحمن كتاب ·اللوامع من الخطب الجوامع وسلمه إلي في المعهد حينما كان ابنه وفقه الله آنذاك.
وأذكر أنه كان يأمر الخطباء بالتأني وعدم الاستعجال والتثبت في الأمور وعدم الخروج على النظام وعدم استثارة الناس في الخطب وبلبلة أفكارهم, ومن هذا يعرف طريقته رحمه الله والتي وضع فيها النقاط على الحروف فقد استفدت أنا وغيري في أمور الخطابة والإمامة فوائد جمة وخيرات كثيرة ألخصها فيما يأتي:
1 إن الخطيب حينما يبدأ أول مرة يعزم ويتوكل على الله ويستشير الموضوعات التي يطرحها.
2 أن يكون توجههه نابعاً من إخلاص وصدق فينكر المنكر ولا يوغل فيه ويترك الأمور التي لا فائدة منها ولا تعنيه.
3 لا يصرح باسم الأشخاص أو الهيئات بل يلمح تلميحات من مبدأ قوله صلى الله عليه وسلم (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ).
4 ان أعواد المنابر ليست لنشر المخازي والفضائح.
5 ان يسير في خطبه على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح فقد قال فضيلته (ليسعكم ما يسعهم).
6 عدم استثارة الناس في الخطب وبلبلة أفكارهم.
هذا ما أكد عليه فضيلة والدنا الشيخ رحمه الله من خلال تلك العلاقة بهذا الأمر,
ومن ذكرياتي في جماعة تحفيظ القرآن الكريم في عنيزة فقد كنت نائبا لفضيلة الشيخ في الجماعة خلال السبع السنوات الأولى للجماعة أولها حينما أسسنا الجماعة سرنا إلى الشيخ بعد اجتماع مصغر ضم بعض من وافقوا على فكرة تأسيس الجماعة وأذكر منهم فضيلة الشيخ عبدالله الصابغ، والشيخ إبراهيم الحمد الجطيلي والشيخ عبدالرحمن الشمسان والشيخ عبدالله المحمد الحمادي.
ثم عزمنا بعد بلورة الفكرة ان يتولى القيام على هذه الجمعية المباركة فضيلة والدنا وتوجهنا إلى منزله بعد موعد معه, وطرحنا الفكرة عليه وقال هذا شيء طيب وأمر لا بد أن يحظى بالاهتمام وقال ومع الأسف عنيزة متأخرة في ذلك, ثم توجهنا إليه وقلنا لكن الأهم ان يكون فضيلتكم موجه هذه الجمعية وقائما عليها فرد علينا أنا أكون رئيساً لا يكون ذلك بل اختاروا واحداً منكم وأشارككم فألححنا عليه مرة تلو الأخرى وقلت سنتشرف برئاستكم للجمعية وسنحظى بقيامكم عليها في كل خير فبعد الإلحاح الشديد وافق رحمه الله.
وما كان عدم قبوله رحمه الله إلا تواضعا وكرهه لما في إدارة أو رئاسة ثم ابتدأ بوضع أول تبرع في الجمعية لتحفيظ القرآن ومقداره خمسة وعشرون ألف ريال, وبعد ذلك كانت الجلسات الأولى أسبوعية في منزله لترتيب الجمعية ووضع الأسس لها, وقامت ولله الحمد هذه الجمعية المباركة ببركات فضيلته ومؤازرته, وأصبحت ولله الحمد في مصاف الجمعيات الكبيرة لتحفيظ القرآن الكريم, ومن ذكرياتي حينما كنت أراجعه لشؤون الجمعية أنه كان يتملى الخطابات ويتأملها ويراجعها نحوياً ولغويا ويضع في بعض الأحيان الأساليب المناسبة للحال, وكان لا يوقع على خطاب أو قرار إلا بعد قراءته, ومن ذكرياتي معه انه كان لا ينفرد بقرار، ويقول يعرض على المجلس ويناقش فيه الرأي، وإذا جاءه أحد حول موضوع أو ملاحظات على الجماعة أو على حلقة خاصة أو معلم أو نحوه, يقول لمن كلمه في ذلك سنناقش ذلك في المجلس وراجعونا فيه, ومن ذكرياتي معه في مجالس الجمعية أنه يضع كل منا في اختصاصه، ويوجه صاحب الاختصاص ويحثه على سرعة الإنجاز،وكان يفوضنا في بعض أمور الجماعة لترتيب عمل أو إصلاح خطأ أو القيام بمهمة أو سفر لحضور دعوة جماعة أخرى فلا يعنف إذا حصل خطأ أو يثرب إذا حصل تأخير بل يقول ما حصل إلا الخير ويحثنا على حضور الدعوات ويهتم بذلك بل يعين المفوضين بذلك بعد قبولهم، وكان يستقبل ضيوف الجماعة ويحظون منه بالكرم واللطف والعطف، وكل هذا يدل على أن فضيلته له من الميزات والتميز في الجوانب التربوية والتعاملية ما يفوق أقرانه، وقد لاحظت ذلك ولاحظ غيري الكثير من هذه الأمور، وكان رحمه الله يأنس بقراءة الصغار للقرآن الكريم فكان يعرض عليه في بعض اللقاءات والمناشط التعليمية من يقرؤون بين يديه فكان يصغى إليهم ويتبادل معهم الحديث ويدعو لهم ويبارك عليهم، وفي بعض الأحيان يشجعهم بالجوائز المادية في نفس الاحتفال, ويتخير الصغار للإجابة على الأسئلة التي يطرحها لتشجيعهم وحفز هممهم, وفي مجالس الجمعية لاحظت الورع في تعامله رحمه الله فلا يمكن أن يدخل على الجمعية ما لا يصح أن يدخل فيها أو يخرج منها ما ليس فيه مصلحة ظاهرة أو منفعة تعود على الجمعية, ومن ذلك أنه وصلنا تبرع من آل الإبراهيم وفقهم الله بمبلغ مائة ألف ريال وكان مزيل في الشيك أنه زكاة فعرضنا ذلك على فضيلته فقد كان أفتى بعدم صرف الزكاة لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم وقلنا سنضعه في الطلاب الفقراء والمعلمين المحتاجين فقال ليرد عليهم المبلغ أو يراجعون في تحويره لصرفه لغرض الزكاة, وكان يقول نحن مسؤولون عن هذا المال الذي بين أيدينا فلا نستهين ولا بريال واحد، ويحرص رحمه الله وينادي في كل مناسبة أن يكون للجمعيات الخيرية موارد استثمار حيث ان ما في أيدي الناس أو الاشتراكات لا تدوم, وكانت هذه الفكرة تدل على ثاقب نظره وعلو تفكيره ونظره البعيد مما جعل الجمعية تحتل مركزاً مالياً متميزاً.
وفي مجال اهتماماته بمجتمعه كانت له المرجعية في التوثيق بعد النظر والتحقيق والتدقيق, فإذا ما عرض خطاب لسؤال محتاج أو طلب سؤال شفاعة حسنة طلب التزكية لصاحبه من اثنين أو أكثر ليتحقق من ذلك ومن ذلك كتب لصاحب حاجة وكنت أحد الشارحين المزكين صاحبه الموقعين عليه فلما عرض على الشيخ اشتبه في توقيعي وأراد أن يتأكد ويتحقق فأرسل صاحبه إلي وقال يريدك الشيخ قال اشتبهت في التوقيع وأريد أن أتحقق, وله دور ريادي ومواقف عظيمة تجاه ما يحدث من قضايا وأحداث في بلده عنيزة فيراعي في ذلك المصالح العامة قبل الخاصة فكانت قضايا عامة تلقى بين يديه لإيجاد مخرج لها أو توجيه حكيم منه, وقضايا في الديات والطلاق وغيرها تعرض عليه فيبادر إلى إصدار الحكم الشرعي المعضد بالدليل من الكتاب والسنة، فيقتنع بها المستفتي والمستقصي والمستشفي, وكان في استقباله للمسؤولين من وزراء وغيرهم خير ناصح وباذل ما يراه يناسب الحال وينفع الأمة والمجتمع وكان من دأبه أن يسدي النصح منفرداً بالمسؤول وأتذكر انه كثيراً ما يزوره من المسؤولين ثم تنتهي الجلسة ثم يقوم من جمعية الوزير أو المسؤول ويبقى مع المسؤول وحده في المواضيع التي تهم عامة البلد من مشاريع تعليمية أو بلدية أو زراعية أو أمور فيها محاذير شرعية، وكان فاتحا صدره لكل من عرضت له مشكلة سواء في بلده أو غيرها, فشيخنا مؤسسة خيرية اجتماعية, ومن المواقف التي تذكر مع أهل البلد لما عانى أهل عنيزة من نقص في المياه تدخل رحمه الله في ذلك وحث المسؤولين على إيجاد حل وكتب وخاطب وأبدى في ذلك الرأي ثم أخيراً لما علمت الأسباب في النقص وان البلد تحتاج إلى زيادة آبار صالحة للشرب عاضد الأهالي وشجعهم على زيادة الآبار وإن كانت التكلفة المرصودة من قبل المصلحة لا تكفي، فإنه سيتولى توفير المال الكافي, وقد تم بالفعل رصد أكثر من مليوني ريال عن طريقه لان هذا من المنافع العامة, وكان ذلك قبيل مرضه رحمه الله, وكانت حسنة من حسناته على أهل بلده.
وفي مجال توجيهاته العامة والخاصة كان يحرص على الانتظام في الأعمال وطاعة ولاة الأمر ويشدد في ذلك ويرى ان معصيتهم من كبائر الذنوب ويحذر من مغبة الاختلاف والتنازع ويعالج بالحكمة وبيان الحق فكان رحمه الله أنموذجاً من نماذج الخير وينبوعاً من ينابيع العلم.
هذا ما جادت به الذاكرة وإني لأعلم ان فضيلة شيخنا رحمه الله كان لا يحب الإطراء ولكنها عواطف جياشة ومشاعر فياضة أبت إلا أن أبوح بها لتكون أنموذجاً يحتذى ومناراً يقتدى, ثم إني قلت في شيخنا الراحل في بعض أوصافه.
لقد كان رحمه الله عالماً نحريراً، ومحققا قديراً وفقيهاً نبيهاً، وبالسلف الصالح شبيهاً، كان ذا نفسية أريحية، وطباع كريمة سجية، ونموذجاً لأصناف الخير، ومعلما في المنهج والسيرة يؤمه العلماء ويحدثه البسطاء، ويتواضع للفقراء، كريما في القول والبذل والعطاء، مهاباً عند العامة والفضلاء، جاهد بالقلم واللسان، وناشد باللين والبيان، وأقنع بالحجة والبرهان, لا تغره المناصب ولا تمنع دونه الحواجب.
عبدالرحمن بن علي النهابي
إمام وخطيب جامع الصالحية وعضو الجمعية الخيرية الصالحية
|
|
|
|
|