| الاقتصادية
لعل من الملاحظ في الآونة الأخيرة زيادة التغطية الإعلامية للأحداث الأمنية والجنائية المثيرة التي تحدث في مختلف قرى ومدن ومناطق المملكة العربية السعودية مما ساهم في زيادة وتنمية الوعي لدى المواطن السعودي بجملة الأحداث الجنائية والأمنية وزاد من حرصه على متابعتها والتعرف على طبيعتها وعناصرها الفاعلة وغير الفاعلة, ومما لا شك فيه فإن المتابع الدقيق لمثل هذه الأحداث يجد أن هنالك زيادة ملحوظة في عدد وشكل بعض الجرائم التي لم تكن معلومة في السابق للمواطن السعودي كقضايا القتل الجماعي والانتحار وغيرها من الجرائم المخيفة والغريبة على المجتمع السعودي الآمن.
السؤال الذي ربما لا يغيب عن أذهان المسؤولين والمهتمين هو لماذا هذا التحول المخيف في نمط الجريمة؟ وما هي الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الزيادة في أعداد الجرائم المخيفة؟ اعتقد أنه على الرغم من كون ما يحدث لدينا يحدث أيضا في الكثير من المجتمعات المتقدمة ذات المقدرة العلمية والفنية الهائلة، إلا أننا مطالبون بمتابعة كافة الجزئيات المكونة للجريمة للتعرف على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء ما يحدث لدينا في الوقت الحاضر حتى لا نجد أنفسنا امام معضلة امنية في المستقبل.
وبالتالي فإننا مطالبون بالسعي وراء هذه الأسباب اكثر من سعينا وراء المجرم المرتكب للجريمة حتى نستطيع اتخاذ التدابير اللازمة التي تكفل عدم تكرار أو الحد من الجريمة, ومن هذا المنطلق فإن تحليلنا للجريمة يجب ألا يقتصر على التعرف على ضبط الجاني بل يتعداه إلى تحليل كافة مفرداتها من خلال الدراسة الشاملة لحالة وظروف وملابسات المجرم والجريمة, فقد يكون السبب الظاهر للجريمة جنائيا ولكن الدافع الحقيقي ربما يكون اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو فكرياً أو غيرها من الدوافع غير المباشرة للجريمة, فعلى سبيل المثال يمكن أخذ جريمة الاعتداء التي تعرض لها موظف الخطوط السعودية من قبل زميله على أنها قضية جنائية تنتهي بإدانة ومعاقبة المجرم كما يمكن أخذها على أساس كونها قضية جنائية ذات بعد اقتصادي أو قضية جنائية ذات بعد إداري, فمن الجانب الاقتصادي يمكن بعد دراسة حالة الجاني التوصل إلى حقيقة ربما تكون غائبة عن أذهان البعض وهي أن عدم قدرة الموظف المفصول على الحصول على فرصة عمل أخرى مناسبة هي السبب الرئيس الذي دفع بالجاني إلى ارتكاب جريمته مما يعني ضرورة التدخل المباشر لعلاج المشكلة من أصولها بدلاً من التركيز على معالجة نتائجها, ومن الجانب الإداري يمكن من خلال التحقيقات ذات الأبعاد الشاملة التعرف على طبيعة العلاقات الإدارية في جهاز الخطوط السعودية والثغرات الإدارية التي ربما تكون قد استغلت عند معالجة وضع الموظف المفصول مما يعني ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لتصحيح الواقع الإداري في الخطوط السعودية حتى لا تتكرر المشكلة وحتى لا نقع في نفس الخطأ الذي سبب المشكلة, إن التعرف على الجريمة والإجابة على التساؤلات الملازمة للجريمة لا تعني إطلاقا عدم محاسبة الجاني ولكنها في الواقع ستساعدنا على منع تكرار الجريمة في المستقبل كما ستتيح لنا الفرصة للتعرف على الأسباب الرئيسة التي دفعت بالجانب لارتكاب جريمته وهو بكامل قواه العقلية.
باختصار فإن التحليل العلمي للجريمة يتطلب مشاركة المختصين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأمنية في التعرف على كل وليس بعض ملابسات الجريمة حتى يمكن تكوين قاعدة معلومات متكملة تساهم في فهم وتحليل القضايا الحالية وتساعد على مكافحة الجرائم اللاحقة وعلى فرض الهوية العلمية على أسلوب المعالجة الأمنية للقضايا ذات الطابع الجنائي, الجميع يعلم بأن مجتمعنا السعودي قد تعرض لتغيرات هيكلية في كافة المجالات مما أدى إلى خلق بيئة متشابكة قد لا تفلح معها المعالجة المبتورة التي تركز على جانب وتهمل الجوانب الأخرى بدعوى عدم مسؤوليتها عن الجوانب المهملة, وهنا أرى أن الفرصة متاحة لمركز أبحاث الجريمة التابع لوزارة الداخلية كي يضطلع بدور رئيس في عملية التحليل العلمي وصنع القرار الإداري والسياسي المتعلق بالقضايا الأمنية والجنائية, أعتقد ان ارتباط المركز الإداري بوزارة الداخلية يتيح له الفرصة في الحصول على كافة المعلومات الضرورية اللازمة لوضع التصور الوطني المخلص أمام صانع القرار ويحرره من البيروقراطية الإدارية التي تعيق الكثير من المحاولات العلمية التي تتعامل مع قضايا ذات حساسية خاصة كالقضايا الأمنية والجنائية, نتمنى ان نرى هذه المركز وقد أصبح قادراً على التعامل مع القضايا الأمنية المعقدة كعمليات غسيل الاموال والجريمة المنظمة بمجالاتها الختلفة كما نتمنى ان يكون للمركز دور بارز في توعية رجال الأمن في جميع القطاعات الأمنية المختلفة بكافة المتغيرات الأمنية على الساحة المحلية والدولية, نتمنى ذلك.
*أستاذ الاقتصاد المشارك بكلية الملك فهد الأمنية .
|
|
|
|
|