| متابعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي إلى الصراط المستقيم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
لا يخفى على كل ذي عقل واع وبصيرة نافذة، علو شأن العلم، وعظيم منزلته، والعلماء الصادقون هم حملة ذلك النور, لهذا رفع الله شأنهم، وأعلى مكانتهم وسما بقدرهم.
فهم قادة (1) وأئمة يهتدى بهم، قولهم فصل، وحكمهم عدل، مواطنهم كمواضع القطر، يهتدي إليهم كل طالب، ويستقي من معينهم كل عاقل، إن غابوا أقحطت أرضهم، وإن حلوا زانت منازلهم.
قال تعالى :يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (2) .
ونحن في بلاد الحرمين خاصة، وعالمنا الإسلامي عامة قد أصبنا بمصائب وأي مصائب إنها فقد الأئمة الأعلام أهل السنة والكتاب, فما أن فجعنا بإمام أهل السنة والجماعة فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله إلا ويقرع أسماعنا خبر وفاة عالم السنة النبوية وناصرها الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله .
وهكذا تتوالى فجائع العالم الإسلامي بعلمائها كعقد انقطع نظمه فرحمهم الله رحمة واسعة.
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم :إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (3) .
وفي مساء الأربعاء الموافق 15/10/1421ه يفاجأ المسلمون عامة وأهل هذه البلاد خاصة بفاجعة كبرى، ورزية عظمى، خبرها أقلق القلوب، وأسال العيون، وذلك بفقد شيخنا وعالمنا، ريحانة زمانه، وفقيه أمته وأقرانه، إنه علامة القصيم الشيخ محمد بن صالح العثيمين تغمده الله برحمته وقدس روحه.
قال الدميري (4) :
إذا ما مات ذول علم وتقوى
فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الصالح المرضي نقص
ففي مرآه للإسلام نسمه |
فكم عرفنا عن شيخنا من خلال دروسه العامرة، ومحاضراته الشاملة، وتوجيهاته الصائبة، انه العالم الرباني الذي نذر نفسه لمناصرة العلم وخدمة أهله، وبث العقيدة الصحيحة، والدعوة إلى كل حق لا تعلوه شائبة، بل كان رحمه الله ذا ورع وزهد، وتواضع ورحابة صدر، يقول كلمة الحق ولا يبالي، كما كان رحمه الله ناصحاً لعامة المسلمين وخاصتهم.
فانتفع به الكثير تدريساً وفتيا، وتأليفاً، وأعتقد أنه لا يكاد يخلو بيت في هذه البلاد من كتب شيخنا أو رسائله، أو حتى فتاواه.
فسبحان من زرع في قلوب الناس حبه، فجعل له القبول والمحبة، وهذا مما لا يدرك الإنسان بماله أو جاهه.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (5) , إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً (6) .
كم مات قوم ما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات |
وكان رحمه الله صابراً ومصابراً إذا عمل عملاً داوم عليه مهتديا بفعله صلى الله عليه وسلم ,, وكان إذا صلى صلاة داوم عليها (7) , وقول عائشة رضي الله عنها كان عمله ديمة (8) .
فدروسه اليومية، والمحاضرات الموسمية، واللقاءات الشهرية، واللقاء المتفوح في منزله ضحى كل خميس وغيرها.
داوم عليها من غير نقص أو ملل، بل إنه استمر على دروسه المكثفة في الإجازة الصيفية مع ظهور بوادر الداء لديه.
وهذا إن دل فإنما يدل على صدق المقصد وإخلاص العمل فرحمه الله وغفر له.
وكان رحمه الله يمكث في موضع درسه الساعة والساعتين بل والثلاث في عزيمة وهمة عالية، لا يعتريه ملل ولا ضجر.
وله نمط معين يسلكه أثناء القاء الدرس بل ينفرد به عن غيره من العلماء الذين تلقيت عنهم، وهذه الطريقة رأيت أنها أكثر نفعاً إذ يبدأ درسه بأسئلة عامة ثم حفظ المتن من قبل الطلاب وبعده الشرح ثم يخصص جزءا للأسئلة عن الدروس بعد ذلك يطالب أولئك التلاميذ بمراجعة هذا الدرس لمناقشتهم في الدرس القادم,, وهكذا.
ولديه رحمه الله ملكة عجيبة لاستحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل على المسألة فسبحان من منَّ عليه بهذا الأسلوب الفريد والعرض المميز.
إذ بهذه الطريقة يستفيد كل من حضر دروسه، علماً أن دروسه يحضرها الطالب والمدرس والدكتور والمهندس والطبيب.
وكثيراً ما تفد عليه مجموعات من الطلاب في الإجازة الصيفية حيث تكثيف الدروس, فمنهم من يأتي من داخل المملكة وبعضهم من خارجها.
وهذه الدروس لا تخلو من الملح والطرائف والحكم طارداً كل ملل وسآمة عن كل مستمع لدرسه.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أجموا هذه القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان (9) .
هكذا كان رحمه الله حافظا محافظا على الوقت مسخره لخدمة الإسلام ونشر العلم, كما كان عليه سلف الأمة.
والشيخ في أقواله وأحكامه يبحث عن الحق، ومتى ما اتضح له الدليل وقوت عنده الحجة التزم ذلك القول (10) وعمل به ولو كان مخالفا لمذهبه الحنبلي فمن ذلك بوجوب زكاة الحلي، وجواز المسح على الخفين وإن كانا مخرقين وكذلك الجوارب، وجواز قصر صلاة المسافر أكثر من (11) أربعة أيام ما دام يتوخى الرجوع، ويرى أن لمصلى العيد تحية كغيره من المساجد، وأن خطبتي العيد تبدأ بالحمد أولاً,.
وكثيراً ما كان يميل إلى أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ويرجحهما.
وبالجملة كان شيخنا رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه مجزي بالإحسان إن شاء الله لبذله الجهد لإدراك الصواب.
فهنيئا لك يا فقيد الأمة ذلك الإرث الذي خلفته لأمتك إنه إرث الأنبياء والعلماء، فرحمه الله لم يترك مجالا في الشريعة إلا كان له فيه أثر علمي، منه المكتوب والمسموع، عقيدة كان أم فقهاً أم حديثاً وتفسيراً أو غير ذلك من الدروس والمحاضرات والتوجيهات، إضافة إلى ما صنع من العقول المربية، بل إنك قد لا تصدق بالأعداد الهائلة التي تحضر دروسه كلها، خاصة دروس الفقه والحديث فمثل هؤلاء لا يمكن حصرهم, فكيف وقد مضت السنين والطلاب بين غاد ورائح، فانتشروا في بقاع الأرض ينشرون ذلك النور الرباني فبارك الله في جهده ونفع به.
وقد قيل:
لقد غيبت أثراؤه جسم ماجد
جليل إذ التفت عليه المجامع
لئن فجعتنا الحادثات بشخصه
لهن لما حكمن فيه فواجع
فأحكامه فينا بدور زواهر
وآثاره فينا نجوم طوالع (12) |
هذا ما قدر عليه البنان، وخطه القلم وأملاه الجنان، في فاجعة أهل الإيمان، فنسأله سبحانه أن يتغمده بعفوه ورضوانه وأن يسكنه فسيح جناته، وأن ينزله منازل الصديقين والشهداء, إنه جواد كريم, ونسأله أن يحسن علينا الخلف إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن صالح بن سليمان الخزيم
مدير المعهد العلمي في البكيرية
(1) الفوائد لابن القيم ص261.
(2) سورة المجادلة آية (11).
(3) رواه البخاري كتاب العلم، ورواه مسلم في كتاب العلم.
(4) طبقات الشافعية (8/201.
(5) الحديد آية (21).
(6) سورة مريم آية (96).
(7) رواهما مسلم في كتاب الصيام.
(8) جامع بيان العلم (1/126).
(9) انظر الشرح الممتع (4/539).
(10) ستجد هذه المسائل في الشرح الممتع بأماكن متفرقة وفي شرح بلوغ المرام ومذكرات الشيخ رحمه الله.
(11) مناقش الشافعي (264).
|
|
|
|
|